فنزويلا.. بلد أضاعه التاريخ والجغرافيا "1-2"
من بين جميع السياسات صحيحة أو خاطئة التي طبقت في فنزويلا، لم تكن هناك سياسة أكثر كارثية بقدر ما كانت عليه سياسة التحكم في نظام الصرف.
هذا بلد وضعته أقداره في تحديات صعبة منذ زمن طويل. فقد كان قدره التاريخي أن تحكمه الشعبوية اليمينية تارة والشعبوية اليسارية تارة أخرى. وكان قدره الجغرافي أن يقع في الفناء الخلفي للولايات المتحدة التي حتى عندما قررت الانعزال عن العالم وفقا لمبدأ مونرو في بدايات القرن التاسع عشر، كانت تقصد عزلة الأمريكتين عن أوروبا والشؤون الدولية، لكنها رأت في الوقت نفسه أن هذا الفناء الخلفي هو مجالها الحيوي الذي لا يجوز لأحد سواها التدخل فيه. وتحالفت هذه الأقدار التاريخية والجغرافية على الشعب الفنزويلي ليعيش في أغلب الأوقات حياة بائسة في بلد حباه الله ثروات طبيعية لا حد لها.
سياسات شعبوية كارثية
من بين جميع السياسات صحيحة أو خاطئة التي طبقت في فنزويلا، ربما لم تكن هناك سياسة أكثر خطأ وذات آثار كارثية بقدر ما كانت عليه سياسة التحكم في نظام الصرف. وقد بدأ فعليا تطبيق التحكم في نظام الصرف تحت ضغط الظروف، إذ مع إضراب العاملين في صناعة النفط في ديسمبر عام 2002 والذي استمر حتى فبراير 2003 توقف إنتاج النفط تماما. وتوقفت من ثم صادرات النفط التي تقدم نحو 96% من عائدات النقد الأجنبي في البلاد. وقد أدى هذا الموقف لإعلان تحكم النظام في سعر الصرف في 5 فبراير 2003 حتى يمكن الحد من هروب رأس المال خارج البلاد، وكذا الحد من استخدام العملات الأجنبية وتأمين الدولارات الكافية لاستيراد السلع الأكثر أهمية، وقد تم تثبيت سعر الصرف عند 1600 بوليفار للدولار الواحد. لكن المشكلة أن النظام الذي كان مؤقتا وتم تبنيه تحت ضغط ظروف شديدة الخصوصية استمر في العمل بدون انقطاع لفترة طويلة لاحقة. والواقع أنه لم تكن هناك مشكلة كبيرة مع توفر العملات الأجنبية بعد ذلك مع عودة الإنتاج النفطي والارتفاع المستمر عالميا في أسعار النفط بين عامي 2003 و2008. بل إن النظام مع توفر العملات الأجنبية أعلن في مارس 2007 أنه بداية من 1 يناير 2008 سيتم طرح عملة جديدة أطلق عليها البوليفار القوي، حيث تساوي وحدة العملة الجديدة ألف وحدة من العملة القديمة، وما ترتب على ذلك من تغيير سعر الصرف بين العملة الجديدة والدولار. ورغم انخفاض أسعار النفط بعد ذلك بدءا من الربع الأخير في عام 2008، فإن هذا الانخفاض لم يستمر سوى عدة أشهر، لتعود الأسعار للانتعاش مجددا بدءا من الربع الثاني من عام 2009.
لكن الملمح الرئيسي الذي تم بشأن سعر الصرف هو المحافظة طوال الوقت على أكثر من سعر صرف رسمي للبوليفار، حيث هناك سعر صرف مرتفع للعملة المحلية من أجل استيراد السلع الأساسية، خاصة الأغذية والأدوية والمستلزمات الطبية للمحافظة على أسعارها المحلية رخيصة نسبيا، وسعر آخر لاستيراد السلع الأخرى كالسيارات والأجهزة الكهربائية وغيرها من السلع، وإلى جانب كل ذلك فمع التحكم في نظام الصرف كان هناك سعر صرف في السوق السوداء لاستيراد القطاع الخاص العديد من السلع.
وربما يكون الخطأ الأكبر الذي ارتبط بالتدفق الكبير للعملات الأجنبية مع ارتفاع قيمة الصادرات النفطية هو سهولة الاستيراد من الخارج، وعدم التفات الحكومة مطلقا لقضية تنويع النشاط الإنتاجي. وبدلا من ذلك فقد ركز تشافيز، وفقا لسياسته التي جاءت تحت عنوان "بناء اشتراكية القرن الواحد والعشرين" التي أعلنها سنة 2005، على الإنفاق الاجتماعي، حيث تزايد الإنفاق على الإسكان والصحة والتعليم للفقراء. وعلى الرغم من أهمية ذلك في بلد اتسم تاريخيا بسوء توزيع الدخل والثروة، فإنه يعد في الحقيقة منهجا شعبويا بامتياز، حيث اكتفى بتقديم السمكة ولم يسعَ لتعليم الفقراء الصيد، عبر توفير فرص العمل المنتج ومع التحرر تدريجيا من الاعتماد على الخارج في كل شيء عبر الاستيراد. وعلى الرغم من كل ما أثير حول اشتراكية فنزويلا فقد ظلت الأغلبية العظمى من الأنشطة الاقتصادية في يد القطاع الخاص. بل إنه بين عامي 1999 وقت تسلم تشافيز للحكم و2011 وعلى الرغم من موجة تأميمات طالت بعض الشركات والأراضي، فإن نصيب القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي تزايد من 65% إلى 71%. إضافة إلى أن هذا المنهج كان عرضة دوما للخطر مع كل انخفاض في إنتاج أو في أسعار النفط أو كليهما معا كما كان عليه الحال بعد عام 2014. ويكفي للدلالة على ما نقول الإشارة إلى أنه بينما أدت أسعار النفط بين عامي 2003 و2012 إلى زيادة قيمة صادرات فنزويلا بنسبة 257%، فقد بلغت قيمة واردات القطاع الخاص نحو 317 مليار دولار خلال الفترة نفسها، وبلغت قيمة هذه الواردات في عام 2012 وحده نحو 66 مليار دولار.
مادورو وتفشي الفساد والتضخم
الملمح الثاني المهم لسياسة التحكم في نظام وسعر الصرف هو الاحتمالات المرتبطة باستغلال هذه السياسة من فساد. وعلى الرغم من أن هذا الفساد كان قد أطل برأسه منذ حكم الرئيس تشافيز، فإنه لم يصبح واضحا ومتفشيا إلا مع اعتلاء نيكولاس مادورو لسدة الحكم في عام 2013. فقد تم تكوين ما يشبه العصابة التي كانت مهمتها الأساسية هي وضع أيديها على عائدات النفط، وفقا لتصريح هكتور نافارو الذي كان وزيرا في عهد تشافيرز. كما أن وزير المالية السابق في عهد تشافير جورج جيورداني قال الشيء نفسه تقريبا، وقدر أن ما قد يصل إلى 300 مليار دولار قد تم الاستيلاء عليها بهذه الطريقة. وكان كل من نافارو وجيورداني من بين الدائرة الضيقة المحيطة بتشافيز لمدة طويلة وكانا يشكلان ركيزة في الحكومة حتى تحولا لانتقاد مادورو في عام 2014 فتمت إقالتهما.
جدير بالذكر أن إقالة جيورداني في عام 2014 كانت لها آثارها السلبية، حيث كان هو الشخص المسؤول عن الحفاظ على نظام سعر الصرف، وذلك عن طريق إجراء بعض التعديلات الدورية حتى يتم تجنب التقلبات العنيفة في هذا السعر. وبمجرد التخلص منه تم حدوث انخفاض كبير ومستمر في سعر صرف العملة المحلية، وهو ما يفيد العصابة التي أشار إليها نافارو.
ومخطط سعر الصرف يتم على الوجه التالي: الأشخاص الذين لديهم فرص للحصول على النقد الأجنبي بسعر الصرف الرسمي التي تحدده الحكومة يمكنهم تحقيق أرباح هائلة مباشرة من بيع ما يحصلون عليه من دولارات في السوق السوداء، أو بتهريب هذه الأموال ووضعها في حسابات مصرفية في الخارج. وكلما زادت الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء، زادت الأرباح من هذا المخطط.
وإضافة إلى ذلك فمع رفض مادورو منذ عام 2013، إدخال أي تعديلات على سعر الصرف الرسمي إلا بشكل متأخر ومتردد وبطيء للغاية، تم السماح للتضخم المتفشي بالعمل على تآكل قيمة العملة الوطنية. وحيث أصبح سعر صرف الدولار في السوق السوداء أعلى بآلاف المرات من السعر الرسمي، فقد خلق ذلك حوافز ضخمة للأنشطة غير المشروعة. ونتيجة لهذا اختفت مئات الملايين من الدولارات في سلع لم يتم استيرادها قط، وفي مشروعات للبنية التحتية لم يتم إنجازها قط، وفي محافظ شركات غير موجودة.
ومع اختلاس الكثير من عائدات الحكومة من خلال نظام سعر الصرف، أو تحويل قسم من هذه العائدات للخارج في شكل سداد لمدفوعات الديون، يبقى القليل من الأموال التي يمكن استخدامها فعليا في تلبية حاجات المواطنين. وكان الحل لدى مادورو هو فرض التقشف. ويقدر أنه ما بين عامي 2012 و2018 تم خفض الواردات بما يزيد على 65%، حتى في ظل النقص الشديد المنتشر في العديد من السلع الأساسية. وتم أيضا خفض الإنفاق الاجتماعي بشدة، حيث بلغ الإنفاق الإجمالي كنسبة من الناتج المحلي مستويات تقل حتى عند مقارنتها بسنوات تطبيق سياسات النيوليبرالية التقشفية في التسعينيات. وكان من نتائج هذه التخفيضات انهيار النظام الصحي، وحدوث نقص شديد في الأغذية والأدوية، وارتفاع صاروخي في وفيات الأطفال والأمهات في فترة النفاس، إلى جانب آلاف الوفيات التي كان من الممكن تجنبها بسبب عدم توفر الأدوية والمستلزمات الطبية.
وبشكل عام فقد انخفضت قيمة الأجور الحقيقية بنسبة 90%، مع التضخم المفرط الذي لم تتم مواجهته برفع كافٍ لمستويات الأجور. حيث انخفض الحد الأدنى للأجر الشهري مما كان قيمته 300 دولار في عام 2012 إلى أقل من 5 دولارات في عام 2018، وهو ما أدى لترك نحو نصف الشعب الفنزويلي يجاهد للعيش بمستوى 5 دولارات شهريا. وقد بدأ انهيار الحد الأدنى للأجر منذ نهاية عام 2012، وهو ما أدى إلى تزايد الجوع وسوء التغذية. ويقوم الآن مئات الآلاف من الشعب الفنزويلي بالهجرة إلى البلدان المجاورة للحصول على حاجاتهم الأساسية، كما يترك العمال أعمالهم بشكل جماعي بعد أن أصبحت أجورهم لا تساوي شروى نقير. ويقدر أنه حتى عام 2018 ترك البلاد نحو 2.3 مليون مواطن، وباتت العديد من قطاعات الاقتصاد الحيوية تعاني من نقص في العاملين، وهو ما أدى إلى مضاعفة الأزمة الاقتصادية التي تعد الأسوأ في تاريخ فنزويلا، حيث يتم تسجيل معدلات نمو اقتصادي سالبة منذ عام 2014، بحيث يُقدر أن الناتج المحلي قد انكمش بنحو 54% بين عامي 2014 و2018.
وقد أدى انخفاض أسعار النفط بالطبع إلى مضاعفة آثار السياسات التي كان قد أقدم عليها مادورو بالفعل. فعندما انخفضت أسعار النفط في النصف الثاني من عام 2014، تم خفض الواردات على الفور بنحو 25%. إلا أنه من الواجب الإشارة إلى أن التضخم المتزايد، ونقص الغذاء، وتشوهات سعر صرف العملة كانت قد بدأت كلها منذ نهاية عام 2012، أي قبل انخفاض أسعار النفط بنحو عامين. وينطبق الأمر نفسه على العقوبات الأمريكية، التي كان لها تأثير ضئيل حتى وسع ترامب من مدى هذه العقوبات في عام 2017. وعند هذا الوقت كان الاقتصاد الفنزويلي يعاني من حالة انهيار مستمر لمدة أربعة أعوام.
مع بداية عام 2018 كان النظام خارجا عن السيطرة بالفعل في تعاملاته الخارجية. فقد كانت الشركات تستورد الأغذية والأدوية بسعر صرف تفضيلي يبلغ 10 بوليفار لكل دولار، بينما كان السعر الرسمي لبقية التعاملات يبلغ 3345 بوليفار للدولار. في الوقت الذي بلغ فيه سعر صرف الدولار في السوق السوداء 130 ألف بوليفار.
ودفع التدخل الحكومي البلد نحو التضخم المفرط بنهاية عام 2016. فقد ارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل جنوني ولم يعد المواطن العادي قادرا على تحمل تكلفة حتى أكثر السلع أساسية. إذ يكفي الإشارة إلى أنه كان على الفنزويلي أن يعمل لمدة 14 ساعة في أغسطس 2017 لكي يستطيع شراء دجاجة، وبعد عام من هذا التاريخ كان عليه أن يعمل لمدة 309 ساعات ليشتري الدجاجة نفسها. ويذكر موقع فنزويلي على الإنترنت أنه كان يمكن شراء 360 بيضة مقابل 100 بوليفار في عام 2008، وهبط الرقم إلى 27 بيضة في عام 2014، ومع حلول عام 2017 كانت المائة بوليفار لا تستطيع حتى شراء بيضة واحدة. ويقدر أن معدل التضخم قد بلغ نحو مليون في المائة في عام 2018.
كانت الحكومة قد حاولت في نهاية يناير 2018 تعديل سعر الصرف فتخلت عن سعر 10 بوليفار للدولار لصالح العودة للمزايدة على سعر صرف العملات الأجنبية. ولكن هذا لم يفلح أيضا، حيث دفعت هذه المزادات نحو الانخفاض المستمر لسعر صرف العملة المحلية. ومع بداية أغسطس 2018 كان سعر الصرف الرسمي للدولار يبلغ 173 ألف بوليفار، بينما كان يبلغ في السوق السوداء 3.6 مليون بوليفار. أي ظل السعر في السوق السوداء يمثل نحو 21 مثل سعر الصرف الرسمي للدولار. ثم قام الرئيس مادورو في 19 أغسطس 2018 بخفض سعر الصرف الرسمي بنحو 96%، أي من 2800 بوليفار للدولار إلى 6 ملايين بوليفار، مماثلا في ذلك لسعر الصرف في السوق السوداء عند ذلك التاريخ. وفي الوقت نفسه قامت الحكومة بالتخلص من خمسة أصفار من عملة البوليفار الجديدة وربطتها بسعر عملة إلكترونية أصدرتها هي البترو وهي عملة ترتبط بسعر برميل النفط، أهم صادرات فنزويلا.
وفي الإجمال يرى الكثيرون أن نظام التحكم في سعر الصرف قد شوّه الاقتصاد الفنزويلي. إذ كان مربحا أكثر للمنتجين المحليين أن يقوموا باستيراد السلع من الخارج عوضا عن إنتاجها محليا، ما نتج عنه تقلص شديد في قاعدة البلاد الإنتاجية. وأدت العملية الطويلة وغير الشفافة لشراء الدولار إلى وجود صعوبات في الاستيراد، وهو ما أدى إلى ندرة عامة في جميع السلع وهو ما حفّز أكثر على حدوث ارتفاع كبير في تكلفة السلع والخدمات. فقد هبطت الواردات إلى 18 مليار دولار فقط في عام 2016 بعد أن كانت تبلغ 66 مليار دولار في عام 2012، ومع ارتفاع شديد في أسعار الواردات نتيجة لارتفاع سعر صرف الدولار. كما أدت ندرة المواد الخام في فنزويلا إلى قيام العديد من الشركات الدولية بخفض مستوى نشاطها، بل وإقدام البعض منها على إغلاق النشاط ومغادرة البلاد. أضف إلى هذا أنه مع إعلان الرئيس مادورو في 19 أغسطس خفض سعر الصرف فقد أعلن كذلك رفع المعدلات الضريبية على الشركات، ورفع الحد الأدنى للأجر بمقدار 60 ضعفا من 3 ملايين بوليفار شهريا إلى 180 مليونا أي من نحو 0.5 دولار شهريا إلى 30 دولارا، وهو ما كان كفيلا، بحسب رؤية بعض الاقتصاديين الفنزويليين، بزيادة معدلات البطالة لعدم قدرة العديد من الأعمال على دفع ضرائب أعلى وفي الوقت ذاته دفع مثل هذه الأجور.
إضافة إلى ما سبق فقد كان لتصاعد الخلافات السياسية مع الولايات المتحدة دورها أيضا، إذ لم تكتفِ الولايات المتحدة بتشجيع وتمويل تحركات المعارضة، ولكنها أعلنت أيضا أن فنزويلا تشكل تهديدا "غير عادي" للأمن القومي الأمريكي وضغطت على المستثمرين والبنوك كي يتجنبوا التعامل مع إدارة مادورو، وبذلك عمل البيت الأبيض على منع فنزويلا من الحصول على التمويل الأجنبي والاستثمارات الأجنبية التي كانت في أمس الحاجة لها.