كما كان متوقعا ألا تُحدث مباحثات فيينا أي اختراق حقيقي في مواقف الولايات المتحدة وإيران.
وأن ما تم فعليا دراسة إمكانية التجاوب المتبادل بين الجانبين، حيث ركزت المحادثات غير المباشرة على القضايا الأساسية، وهي التأكيد على الخطوات النووية التي يتعين على إيران القيام بها وفقاً لالتزاماتها، وأيضاً الخطوات التي يجب أن تتخذها الولايات المتحدة حتى يمكن العودة إلى الاتفاق، والواضح أن الإدارة الأمريكية ستخسر مصداقيتها الدولية في حال الاستمرار في تبني نفس النهج التفاوضي مع إيران من خلال حث الجانب الإيراني على الدخول في مفاوضات جادة ومباشرة والعمل معا، وهو ما فسر إيرانيا على أنه استجداء أمريكي سبق أن تكرر مع إدارة الرئيس ترامب في السابق، ورغم أن خبراء إدارة بايدن كانوا قريبين من تفاصيل الاتفاق السابق، والذي خرج منه الرئيس الأمريكي السابق ترامب، فإن الواقع الراهن للإدارة الأمريكية يكشف بالفعل عن عدة تطورات.
الأول: أن مسؤولي الإدارة ورغم مرور عدة أشهر على بداية الولاية فإنهم لم ينجحوا في تحريك المشهد التفاوضي، بل استمروا في الشد والجذب، وهو ما تكرر في فيينا أخيرا، حيث تكرر نفس الخطاب السياسي والإعلامي إضافة إلى التلويح باستخدام القوة في الخليج العربي لردع إيران، ومع ذلك عاد الخطاب السياسي الأمريكي للمربع رقم صفر مجددا من خلال الإعلان عن إمكانية تجزئة الحلول والخيارات بمعنى عودة الجانب الأمريكي للاتفاق بدون شرط أو قيد، وتفعيل الحضور الأمريكي بالتنسيق مع الجانب الأوروبي ثم الدخول في مفاوضات لاحقة على مجمل الطرح الأمريكي، وأهم بنوده البرنامج الصاروخي والسلوك الإيراني في الإقليم وغيرها من البنود التي لا تريد إيران الالتزام بها، والواقع أن تجزئة الخيارات والتعاملات ستؤدي بإيران إلى مزيد من التشدد، إذ إن هذا التوجه سيدفع بخيارات أخرى أكثر واقعية ومنطقية.
الثاني: ستواجه الإدارة الأمريكية -وهو ما ظهر في المحادثات- بمواقف مستجدة مع احتمالات أن تفرز الانتخابات التشريعية الإيرانية نهجا جديدا في التعامل ردا على ما يجري، وفي إطار من الحسابات المخطط لها جيدا في إيران وترتبط بالفعل بمنهج عمل قائم على فكرة توزيع الأدوار، وهو ما يعني أن إيران ستعمل على الوصول إلى هدفها المركزي، وهو الحصول على المكاسب الكبرى، أي رفع حالة العقوبات والانطلاق للعمل مع الاقتصاد الدولي في ظل آليات سبق أن اتبعتها بصرف النظر عن التهديد بالعودة للتخصيب، والانتقال إلى مرحلة جديدة في المواجهة، فالمعروف أن إيران على وشك الدخول في مرحلة العتبة النووية، بصرف النظر عن نسب التخصيب التي تلوح بها دوريا، وهي تدرك أن المسألة باتت مرتبطة بعنصر الوقت ليس أكثر، ويكفي هنا الإشارة إلى رسائل الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي ترى أن إيران مراوغة بالفعل خاصة أنها استخدمت أجهزة طرد مركزي من طرازات أكثر تقدمية على غرار جهازي ir2m / ir6، بالتالي فإن إيران تعرف جيدا كيف تتعامل وتتحرك.
الثالث: تتصور الإدارة الأمريكية أن السماح لإيران بالتحرك والعمل بفكرة المراحل قد يشجع بالفعل الجانب الإيراني على اتخاذ خطوات أخرى أكثر أهمية، وهو أمر محل نظر، خاصة أن إيران ليست بهذه الصورة، فالملفات محل الخلاف كبيرة ومتعددة، ما يتطلب بالفعل موقفا محددا والعمل على مسارات متنوعة، بما في ذلك تبني خيارات ردع مسبقة، والقضية المهمة ليست في تعديل السلوك الإيراني أو تغيير منهج التعامل، بل في الأساس التعامل بصورة حازمة ومباشرة، إذ لا توجد ضمانات برفع مستوى الأنشطة النووية الإيرانية، وتوسيع نطاق عمليات التخصيب واستخدام أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطورا! بل العودة إلى مستوى من التخصيب عند 3.67% وحصر عمليات التخصيب في منشأة نطنز، واستخدام أجهزة الطرد المركزي من طراز IRI فقط.
الرابع: أن الحديث عن أي تغيير في نمط التعامل الأمريكي سيتطلب بالفعل إعادة ترتيب الحسابات والتقييمات السياسية والاستراتيجية للتعامل الأمريكي مع إيران، وهو الأمر المرتبط بالأساس بدور ومواقف بعض الأطراف الرئيسية في الإقليم، ومنها دول الخليج العربي وإسرائيل، والتي كان من المفترض أن تضغط الولايات المتحدة في اتجاه إجراء حوار إقليمي حول الحركة الإيرانية، وهو ما رفضته طهران بالفعل، فيما ظلت الإدارة الأمريكية تعرض مقترحاتها، وظلت إيران ترفض الخيارات تباعا، وهو ما يؤكد أن إيران مستمرة في نهجها المكرر والقائم على التفاوض على البرنامج النووي فقط وعدم التطلع إلى أي مفاوضات أخرى.
وقد فشلت الإدارة الأمريكية في تحريك المشهد التفاوضي رغم وجود العديد من الخبراء الذين كانوا ضمن الفريق التفاوضي في إدارة أوباما، بل وخرج وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في اجتماع وزراء حلف الناتو في بروكسل في 24 مارس/آذار الماضي يؤكد السعي للوصول إلى اتفاق أطول وأقوى في شأن زعزعة إيران للاستقرار الإقليمي، غير أن برنامجها للصواريخ الباليستية بمرحلة ما بعد العودة إلى الامتثال الكامل لخطة العمل المشتركة، وأن الكرة في الملعب الإيراني، هكذا يتصور الوزير الأمريكي وفريق مفاوضيه، الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة ليست لديها الرؤية في التعامل خاصة أن الحديث الأمريكي المطروح في محادثات فيينا هو تقليص العقوبات، وليس رفعها كخيار مطروح ومؤثر، وهو ما قد يؤدي إلى متغيرات جديدة ستفرض نفسها على الجانبين، بل ومن المتوقع أن تقدم إيران على مزيد من التشدد في الطرح، والمواجهة إزاء ما يعرض، وهو ما سيمثل تحديا للسياسة الأمريكية في نطاقها، خاصة أن الجانبين ليسا في عجلة مع الزمن، خصوصا أن حرب تكسير العظام مستمر والإشكالية الرئيسية مَن سيبدأ في التجاوب الحقيقي؟
سندور في حلقة فراغ ما لم تقدم الإدارة الأمريكية على إيجاد روادع حقيقية في مواجهة إيران، والعمل على جميع المسارات والخروج المباشر من الموقف الراهن، وطرح صيغة محددة قابلة للتفاوض وفق إطار زمني محدد مقبول وواقعي ويؤدي إلى ضبط سلوك إيران المزعزع للاستقرار في المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة