القوة الناعمة لروسيا في الشرق الأوسط
عقب توليه مقاليد الحكم قرر الرئيس بوتين استعادة روسيا لمكانتها العالمية بحيازة وسائل ومفردات القوة الناعمة وإعادة ترتيب أولوياتها.
الحدود بين الدراسات السياسية الأكاديمية والواقع دائما كانت مثارا للحديث الفلسفي أحيانا، وفي بعض الأحيان مجالا للتهكم حول منجزات هذه الدراسات والعلوم ذات المنبت المجتمعي؛ وما زاد من حالة الجدل ما شهدته هذه الدراسات والعلوم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق وهيمنة الولايات المتحدة على إدارة قضايا السياسات العالمية، حيث اتجهت أنظار صناع القرار للباحثين والمتخصصين لمساعدتهم في "صنع وإدارة المستقبل القريب والبعيد" من خلال تصوراتهم وأطروحاتهم الفكرية التي يمكن الاعتماد عليها في هذا الشأن.
لذا جاءت مساهمات نفر من هؤلاء الباحثين -منهم جوزيف ناي وآخرون من أساتذة العلاقات الدولية- في صورة خلق مجالات جديدة للتنافس والصراع بين الدول أطلق عليها "القوة الناعمة" لتحقيق النفوذ أو توسيع نطاقه على النطاق العالمي بعيدا عن المجالات التقليدية للصراع والتنافس والتي ارتبطت بما يسمى "القوة الصلبة".
ومع تطور وكثرة المساهمات الفكرية لهذا المجال والبعد الجديد لقوة الدولة ودخول غالبية الدول النامية ذات التراث الحضاري الهائل مثل: روسيا والهند ومصر والعراق والصين واليابان.. وغيرها حلبة المنافسة مع الدول الكبرى حديثة النشأة التاريخية والضعيفة في التراكم الحضاري ومنها الولايات المتحدة في حيازة مفردات وعناصر هذه القوة الناعمة، التي تشمل: الآثار والمتاحف والتاريخ والآداب والمسرح والموسيقى والترجمة وفنون السينما والتلفزيون واجتذاب طلاب العلم للدراسة في الجامعات والمعاهد التعليمية ومجالات السياحة الشاطئية والألعاب الرياضية والوجبات الشعبية التقليدية.
لذا قرر الرئيس فلاديمير بوتين عقب توليه مقاليد الحكم بروسيا في بداية القرن الحالي استعادة روسيا لمكانتها العالمية بحيازة وسائل ومفردات القوة الناعمة وإعادة ترتيب أولوياتها فيما يتعلق بتنمية مصادر هذه القوة واستخدامها على الوجه الأحسن، وتطوير كفاءة المؤسسات المعنية ببناء القدرات وتوظيف واستثمار مصادر القوة الناعمة بحيث تتناسب مخرجات القوة الناعمة مع الموارد أو المصادر المتاحة لها، فقد اعتبر الرئيس بوتين أن القوة الناعمة لروسيا بمثابة وجه مضاد للوجه الآخر الذي تجتمع فيه سلبياتها وهو القوة الصلبة، وحدد أهداف بلاده من استخدام القوة الناعمة في: الحفاظ على ثقافتها واستغلالها على نحو يجعل منها قوة فاعلة لتحقيق تقدم ملموس في الأسواق الدولية، وتحقيق تقدم ثقافي يرتكز على تصدير الثقافة والتعليم الروسيتين للخارج وبما يخدم مصالح روسيا وأفكارها ومنتجاتها أيضًا.
وجاءت الوجهة الأولى للقوة الناعمة الروسية الجديدة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي استقلت عنه في بداية تسعينيات القرن الماضي اعتمادا على عدة عناصر، منها كونها الوجهة الرئيسة للعمالة المهاجرة من هذه الجمهوريات، وانتشار الأقليات الروسية في تلك الدول، علاوة على روابط: التاريخ المشترك والقرب الثقافي واللغوي، ونمو الاقتصاد القومي الروسي في السنوات الأخيرة، وانتعاش قطاع الطاقة، فضلاً عن كثافة البرامج الثقافية واللغوية الروسية، وتوفير المنح الدراسية للطلاب الأجانب، وتنوع وسائل الإعلام، وأخيرًا العامل الديني ممثلاً في الدور الإيجابي للكنيسة المسيحية الأرثوذكسية.
وبدأت روسيا استعادة قوتها الناعمة في المنطقة العربية سريعا في عام 2002، حيث تكثفت منذ ذلك الوقت الزيارات الرسمية المتبادلة بين المسؤولين والقادة والرؤساء العرب ونظرائهم من القيادات الروسية؛ وحافظ على استدامة تغلغل وانتشار القوة الناعمة الروسية مجيئ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني 2017، وتبنيه سياسات انعزالية خارجيا أسهمت في تراجع الدور الأمريكي بالمنطقة وتزايد أعداد الشباب العربي الذين باتوا ينظرون إلى موسكو باعتبارها حليفًا، بينما يعتبرون الولايات المتحدة قوة لا يمكن الاعتماد عليها.. ويمكن رصد عدة نجاحات لاستخدام روسيا لأدوات وعناصر قوتها الناعمة في عدة دول عربية وفي أكثر من قطاع حيوي من أبرزها:
* تحديثها لقناتها الإعلامية الدولية "آر تي" التي كانت معروفة في وقت سابق باسم "روسيا اليوم"، واجتهادها في تطوير الخدمة العربية بها، حتى صارت واحدة من كبرى الشبكات العربية في المنطقة، ما جعل واشنطن تصفها بأنها "بوق دعاية بوتين"، كونها تعمد إلى الترويج لرؤى روسيا ومنظورها في المنطقة.
* التحرك الروسي الدبلوماسي النشط بالتنسيق مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر لتسوية قضايا ومشكلات الصراع والحروب في المنطقة وفقا لما كشف عنه الرئيس بوتين مؤخراً؛ ومن أهم هذه المشكلات والحروب، الصراع في سوريا، والحرب في اليمن؛ والصراع المسلح في ليبيا.
وترتكز السياسات الروسية والعربية المقدمة في هذا الشأن على طرح الحلول والمبادرات الهادفة لتهدئة هذه الحروب والصراعات، والوصول لهدنة أولا والحد من تدخلات القوى الخارجية ثم تجميع جميع القوى والفصائل الوطنية العربية لمائدة التفاوض، وإعادة وتوطين اللاجئين مرة أخرى في ديارهم، والقيام بتنفيذ مشروعات إعادة الإعمار وبناء من دمرته هذه الصراعات والحروب من منشآت ومرافق البنية الأساسية من محطات مياه شرب وصرف صحي ومستشفيات ومدارس وشبكة طرق ومواصلات واتصالات وغيرها خلال الفترة المقبلة؛ ما يعنى أن الطريق بات مفتوحا أمام روسيا للقيام بدور مهم في ملفات المنطقة وبالتنسيق والتفاهم المشترك مع قادة دول الإمارات والسعودية ومصر، وبالتالي تقوية موقعها الإقليمي والدولي.
* تفعيل نشاط المراكز الثقافية والعلمية الروسية من جديد في عدد من الأقطار العربية، وتحديدا في مصر والمغرب وتونس وسوريا والأردن ولبنان. وتقوم هذه المراكز التي تمولها الدولة الروسية بتنظيم شتى الفعاليات الثقافية كالمعارض الفنية والحفلات الموسيقية والأمسيات الأدبية وعروض الأفلام الروسية ومهرجانات الثقافة الروسية.
* تأسيس عدة روابط ومنظمات للمجتمع المدني الروسي-العربي لتحسين وتعزيز صورة كل من روسيا والعالم العربي لدى الآخر، وتمتين أواصر التعاون الاقتصادي والثقافي فيما بينهما فقط من خلال: توفير المعلومات الموثوقة والموثقة عن الشركاء التجاريين المحتملين ووسط رجال الأعمال من الجانبين العربي والروسي وبما يعزز التعاون المتبادل والقائم على أسس المنفعة والمصلحة المشتركة؛ وضمان التفاعل الأفضل والخلاق في جميع قطاعات الاقتصاد والتنمية الاجتماعية والعلاقات الثقافية والعلمية وغيرها؛ وخلق مناخ ملائم للاستثمار المشترك بين الجانبين وعلى المدى الطويل. ومن أبرز هذه الروابط والمنظمات:
مجلس الأعمال الروسي العربي الذي أنشئ عام 2002؛ وجمعيات الصداقة الروسية العربية التي تضع نصب عينيها مهمة إطلاع الروس على تقاليد وعادات الأقطار العربية وثقافتها؛ وجمعيات خريجي المعاهد والجامعات السوفيتية والروسية بما في ذلك الدراسات العليا؛ بالإضافة إلى قيام اتحاد أدباء روسيا بإبرام اتفاقات وبرامج للتعاون مع اتحادات ونوادي الأدباء العرب في سوريا وتونس وفلسطين والإمارات والأردن والعراق ولبنان والسعودية ومصر والمغرب وغيرها.
كما تم إعلان تأسيس مجلس خاص للعلاقات مع الأدباء العرب في اتحاد أدباء روسيا، حيث يضم في عضويته أدباء روسيا كبارا ومستشرقين وعلماء والأدباء العرب القاطنين في موسكو، وحرصت روسيا على تعريف مواطنيها بالثقافة العربية ومبدعيها من الأدباء والشعراء؛ فأسهمت في تأسيس وافتتاح المركز الثقافي العربي في مدينة سانت بطرسبورج في عام 2012، بهدف تمتين العلاقات الثقافية مع الدول العربية، بالإضافة إلى نشر واستخدام اللغة العربية في روسيا من خلال افتتاح مدرسة خاصة لهذا الغرض في سانت بطرسبورج؛ وتنظيم حوارات شهرية حول مواضيع اجتماعية ثقافية متنوعة ومتعددة على الساحتين الروسية والعربية، بالإضافة إلى رعاية الطلاب العرب في سانت بطرسبورج وحل مشاكلهم مع مؤسسات الدولة الرسمية.
ربما يفوق ما سبق جميعا من وجهة نظرنا هو استئناف نشاط الترجمة من الروسية للعربية والعكس، ما أثرى المكتبة الروسية والقارئ الروسي بكتابات وإبداعات نجيب محفوظ ويوسف إدريس والطيب صالح وغيرهم من الأدباء العرب المعروفين، وتعكف دور النشر الروسية المملوكة للدولة حاليا على إعداد وتنفيذ مشروع عملاق لترجمة "أفضل 100 رواية عربية في القرن العشرين" تم الانتهاء من ترجمة نحو 20 رواية منها في مقدمتها رواية "قنديل أم هاشم" للروائي المصري الكبير يحيى حقي، وهي أول عمل أدبي له يصدر باللغة الروسية.
* حلمت الدول العربية كثيرا خاصة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بالدخول في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية؛ غير أن هذا الحلم كثيرا ما اصطدم بالمخاوف التي أثارتها بعض الدول الغربية الكبرى بشأن عدم فعالية نظم الأمان والتأمين الخاصة بتشغيل هذه المحطات، والتي دعمها انفجار مفاعل تشرنوبل وتضرر بعض الدول المجاورة من انتشار الغبار الذري فيها ما كبدها الكثير من الخسائر الاقتصادية.
يضاف لما سبق افتقار كثير من الدول للكوادر الفنية والمدربة لتشغيل هذه المحطات حال إقامتها؛ إلى جانب تكلفتها الاقتصادية الضخمة مقارنة بالوسائل والطرق التقليدية الأخرى في توليد الطاقة واستخدامها.
وقد جاءت روسيا النووية في عهد بوتين لتحقق طموح بعض الدول العربية الراغبة في الدخول لمجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية متعهدة في هذا الشأن بتقديم الدعم الفني والتقني وتدريب وإعداد الكوادر الفنية والبشرية المؤهلة لتشغيل هذه المحطات؛ علاوة على المساعدة في تدبير مصادر التمويل اللازمة والكافية للدول محدودة الموارد المالية إلى جانب توفير المعدات والأجهزة التكنولوجية الحديثة والمتقدمة في هذا الشأن. وأبرمت روسيا اتفاقات لهذا الغرض مع عدة دول عربية منها مصر والإمارات والمغرب؛ كما تجري مفاوضات مع دول أخرى منها الأردن والكويت والجزائر وغيرها، ولا شك أن مثل هذه المشروعات العملاقة ستدعم الصورة الإيجابية لروسيا بين شعوب المنطقة التي تتوجس كثيرا من السياسات والمشروعات الغربية التي تستهدف في المقام الأول الحفاظ على مصالح هذه الدول في المنطقة العربية.
* التعليم الجامعي وما بعد الجامعي في روسيا، حيث شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -وهو يلقي خطابه السنوي إلى البرلمان الروسي عام 2012- على ضرورة تهيئة الظروف ليأتي الطلاب الموهوبون من البلدان الأخرى إلى روسيا للدراسة، ويبقى خيرة الخريجين الأجانب في روسيا للعمل؛ لذا تسعى روسيا إلى توطيد موقعها كبلد مضيف لمتلقي العلوم والبحث العلمي؛ ومن أجل ذلك تطوّر الجامعات الروسية المناهج التعليمية وتعزز قدرتها على جذب الطلاب الأجانب؛ ومن أبرز هذه الجهود مشروع النهوض بمستوى الخدمات التعليمية (مشروع 5-100) الذي بدأ بتنفيذه منذ عام 2013؛ ويتزايد عدد البرامج التعليمية التي تنفذها الجامعات الروسية المشاركة في المشروع لخدمة الطلاب العرب، عاما بعد عام.
وفى نهاية عام 2018 بلغ عدد الطلاب الأجانب في روسيا، 272 ألف طالب؛ ووفقا لمخططات وزارة التعليم والعلوم الروسية فإن عدد الطلاب الأجانب في روسيا يجب أن يرتفع إلى 710 آلاف بحلول عام 2025. ويأتي غالبية الطلاب الأجانب إلى روسيا من آسيا الوسطى والجمهوريات السوفيتية السابقة. ويشكل الطلاب العرب ثالث أكبر فوج من الموفدين إلى الدراسة في روسيا؛ حيث وصلت أعدادهم في نهاية 2018 إلى 11982 شخصا قدموا من 19 بلدا من بلدان العالم العربي، أو نحو 10% فقط من إجمالي عدد الطلاب الأجانب في روسيا.
وثمة أسباب كثيرة تدفع الطلاب العرب للدراسة في روسيا منها جودة التعليم الروسي الذي يتميز بأصالته وتقديم الخدمات التعليمية المبتكرة، وانخفاض تكلفة الدراسة والإعاشة في روسيا التي تقل كثيرا عن تكلفة الدراسة والإعاشة في غالبية الدول الأوروبية والولايات المتحدة؛ علاوة على تدني معدلات التمييز والكراهية والعداء للأجانب ومنهم العرب.
* السياحة: على الرغم من استخفاف البعض بهذا النشاط والعاملين به فإنه من أكثر الأنشطة الاقتصادية المضاعفة للدخول وقاطرة التنمية والتمويل لقطاعات أخرى مثل الصناعة والزراعة؛ لذا لم يكن من المستغرب تنامى الأثر الاقتصادي للسياحة الروسية الوافدة إلى الدول العربية والتي فاقت مليون سائح عام 2016 بمعدل إنفاق للسائح الواحد تراوح بين 88 و105 دولارات في اليوم الواحد وبإجمالي نحو 23 مليون ليلة سياحية.
وفى عام 2019؛ تشير البيانات والإحصاءات إلى تصدر الإمارات العربية المتحدة قائمة الدول العربية في الوجهة المفضلة لدى السائح الروسي في الربع الأول من هذا العام؛ وجاء ترتيب الإمارات ضمن قائمة العشرة الأوائل للوجهات السياحية المفضلة للسائح الروسي إلى جانب كل من الدول الأجنبية مثل تايلاند وألمانيا وإيطاليا وفيتنام وإسبانيا وفرنسا والهند والتشيك.
ووفقا للبيانات الرسمية تقدر مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 161 مليار درهم ما يجعلها المصدر الثاني في الإيرادات المالية للموازنة العامة في الإمارات.