الكاتب المصري وجدي الكومي: رسمت خريطة لوطن "النسوة اللاتي" المُتخيل
حديث مع الكاتب المصري وجدي الكومي حول روايته الصادرة أخيرا "النسوة اللاتي" التي يعدها لعبة فنية جديدة في مشروعه الأدبي
في روايته الجديدة "النسوة اللاتي" صنع الكاتب المصري وجدي الكومي جغرافيا مُتخيلة لبلد أطلق عليها "بلد المحيط"، وبها تتكشف مفارقات عبثية وغرائبية يُعيد بها الأبطال استكشاف الخراب الذي حلّ بهم والذي لا ينفصل عن هزائمهم الشخصية الخاصة.
الرواية صدرت أخيرا عن دار "سرد" و"ممدوح عدوان" للنشر والتوزيع، وفي الحوار التالي تحدثت "العين الإخبارية" مع الكاتب وجدي الكومي حول أجواء "النسوة اللاتي" التي تسودها رؤية عبثية وفانتازية يرى الكومي أنها مثلت أمامه تحديا ممتعا أراد من خلالها استكشاف آفاق جديدة في الكتابة تضيف لمشروعه الأدبي.
وتعد "النسوة اللاتي" الرواية الخامسة لوجدي الكومي، وسبقها روايات "شديد البرودة ليلا" 2008، "الموت يشربها سادة" 2010، "خنادق العذراوات" 2013، "إيقاع" 2015 التي حصلت على جائزة الإبداع العربي في مجال الأدب، كما صدرت له مجموعتان قصصيتان هما "سبع محاولات للقفز فوق السور" 2013 و"شوارع السماء" 2017 التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة "الملتقى" للقصة القصيرة، وحصلت على جائزة معرض القاهرة للكتاب في دورته الـ49.
وهنا نص الحوار..
تُقدم نفسك في "النسوة اللاتي" بأسلوب مختلف.
نعم، هي تجربة غريبة على مشروعي، في "النسوة اللاتي" كنت أريد كتابة رواية ديستوبيا، وهو نوع أدبي يدور حول مجتمع خيالي يعيش واقعا سوداويا مريرا وهو عكس اليوتوبيا، وهذا تحدٍ أردت أن أضيف به إلى مشروعي الأدبي، فقررت الكتابة خارج مربع الواقعية، وأن أختبر نفسي في تلك المنطقة الأدبية، حريصا على عدم استنساخ نفسي وأنا أكتب "النسوة اللاتي".
هل ترى أن كتابة الديستوبيا مغامرة؟
الديستوبيا تيار أدبي حديث وأصبح اللعب فيه أكثر حرية وليس أكثر تخويفا، فمثلا مارجريت أتوود، الكاتبة الكندية، معظم أعمالها مشغولة بمنطقة الديستوبيا والغرائبية، وآخر عمل قرأته لها بعد انتهائي من "النسوة اللاتي" كان "القاتل الأعمى" التي صدرت ترجمتها عن المركز القومي للترجمة، وهي رواية غنية بالخيال والديستوبيا، وتبدو في منطقة أشبه بألف ليلة وليلة التي هي منبع الديستوبيا الأولى من وجهة نظري.
روايتك "ألف ليلة وليلة".. حملت ملامح من أجواء الحكايات الشهيرة، هل كان هذا مقصودا؟
فعلا، أردت تقديم تحية لألف ليلة وليلة التي حملتنا جميعا على أكتافها سواء كتاب عرب أو من الغرب، فهي بئر الخيال الذي ينهل منه كل أدباء العالم بمختلف لغاتهم، فقصة الأرمني هي تحية لهذا الكتاب العظيم الذي لا نعرف حتى اليوم من هو صاحب هذا السفر العملاق المسمى بألف ليلة وليلة، وربما هذا من مواطن إعجازه، باعتباره كتابا عاش أكثر من صاحبه، وهناك روايات عن أنه مؤلف مُتعدد الأصحاب، وهذا يسير مع المنطق، لاختلاف طرائق حكي حكاياته.
في الرواية أيضا تحية للكتابة والتدوين في مواجهة الاندثار.
الفضل في كل ما نعيشه يعود لمحاولة الإنسان الأول أن "يشخبط" وينحت على الحجر قبل أن يخترع الكتابة، ولولا الكتابة لما بدأت الحضارة.
وفي الرواية كان موظف الأمم المتحدة المبعوث لبلد المحيط المنكوب يكتب على أي سطح يجده صالحا للتدوين حتى الكراتين وأقلام الكحل كتب بها، بعدما انقطعت الكهرباء عن البلد، فتحولت للبدائية، وظل حريصا على التدوين، فالحقيقة لا بد أن يكتبها أحد مهما حدث من تعتيم أو تشويه.
هل يمكن اعتبار روايتك نصا واقعيا اخترت أن تقدمه بغلاف خيالي؟
خلال السنوات الأخيرة أصبحت القراءة مُغلفة بحساسية وإمعان في إسقاط كل شيء على الواقع، فروايتي الرابعة "إيقاع" نوقشت مع طبقات مختلفة من القراء، واكتشفت وقتها أن القراء لديهم ميل دائم إلى إسقاط الأدب على الواقع، وعلى تعمد توريط المؤلف والكاتب في تشويه بلده أو الإساءة لها، فأصبحت القراءة تبتعد عن التذوق الفني وتتجه للمباشرة، أنا كروائي ألعب لعبة فنية ممتعة، واخترت الديستوبيا هنا من أجل اللعبة الفنية الممتعة، فليست مهمة الروائي أن يقدم أي لعبة إلا الفن.
عندما أكتب رواية تكون مهمتي أن أصنع رواية لها حبكة ومتعة وقصة مشوقة تأخذ القارئ بعيدا عن الواقع وهذه المدرسة الفنية التي أفهم بها الأدب، ولا أفرض فهمي الخاص للأدب هذا على أحد الذي يأخذ القارئ بعيدا عن الواقع كأنه في رحلة.
ما سر الاعتناء بعنصر المكان في أعمالك؟
مجموعتي "شوارع السماء" أعتبرها أولى تدريباتي على كتابة الديستوبيا، أذكر من قصصها "الرجل الذي يدخل البكاء"، و"تأكل النسور من رأسه" و"كاتب قصص الجنود"، وأنا أؤمن بأن التدريب هو أساس تطور القدرة الأدبية.
"شوارع السماء" كان بها من العبثية والديستوبيا والكفكاوية، وفي "النسوة اللاتي" ذاكرت جيدا كي أخترع "بلد المحيط"، واخترعت كذبة مكتملة الأركان، فجعلت للبلد خط طول وخط عرض افتراضيين، وأطلقت على جوانبها أسماء شوارع وميادين كـ"باب الشمس" وجبل الولي وغيرها، حتى إنني من شدة تصوري لها رسمت خريطة لبلد المحيط بما فيها من تفاصيل جغرافية، وتناقشت مع الناشر فايز علام كثيرا في فكرة نشر هذه الخريطة في بداية الرواية، وقررنا الاكتفاء بذكر فهرس لأحياء ومناطق البلد، إمعانا في الإيهام الفني للعمل، كنت حريصا أن أصف المكان بما يجعل القارئ يشعر أنه يطير فوق واقعه وليس في مدينة يعرفها.
ماذا عن استخدامك للأصوات المتعددة في سرد الرواية؟
في روايتي الرابعة "إيقاع" استخدمت تعدد الرواة، وكانت أول مرة وقتها أجرب هذه الطريقة بعد أن كنت استخدم ضمير المتكلم عادة في السرد، كنت أريد تجربة تكنيك سردي مختلف، رغم أنه تكنيك ليس جديدا على الأدب ولعل أشهر من استخدمه كان نجيب محفوظ في "ميرامار"، وفي "النسوة اللاتي" استفدت من تجربتي في "إيقاع"، بحيث جعلت كل شخصية تحكي الحكاية من منظورها الشخصي، لكنني أضفت أن جعلت الشخصية الرئيسية "جون" هو الرابط بين شبكة أصوات الرواية، فهو صاحب التقرير الذي يدون به الحكايات، فجعلت جون يحكي عن كل شخصية قبل أن تظهر، وهذا أقرب لما يطلق عليه بأسلوب "المسرواية" أو السرد الذي يمزج بين المسرح والرواية، شخصية تقدم شخصية وتفسح لها مسرح الحكي، جعلت جون يحكي عن كل شخصية قبل ما يبدأ دورها في الحكي، وهذا أيضا كان في إطار اللعبة السردية، حتى إنني صادفت تعليقات حول ما إذا كان هذا ارتباك في شكل البناء، وكان ردي أنني أقدم لعبة مقصودة، تشبه أحيانا الأحجية التي تتداخل بها شخصيات كما حدث في تقاطعات السرد بين "شاهيناز" و"حسين المشرحجي" و"ذهني" و"ياسمين"، بما في ذلك تداخلات آرائهم في بعضهم، حوارات تتداخل ويتفتح معها السرد.
ما أبرز التحديات التي قابلتك لدى كتابة هذه الرواية؟
إنها رواية صعبة، كتبتها في نحو 4 سنوات، بدأتها في أكتوبر/تشرين الأول 2015، وأعدت كتابتها أكثر من 30 مرة، حتى صدرت في نهايات 2019 قبل معرض القاهرة للكتاب، وكانت خطوات إعادة الكتابة لضمان أنني نجحت في ضبط كل شيء، وهي أكثر عمل اشتغلت فيه وأعدت كتابته بين كل أعمالي، علاوة على أنها لون صعب وجديد بالنسبة لي، فماذا يدفع الإنسان لتسلق جبل إلا متعة التسلق والجمال الذي يُمنى به الإنسان نفسه في الرحلة، كالوصول لأعلى قدرات كتابية عندي، ما جعلني أذاكر طريقة سردية أحبها، بها لعب حُر في الخيال، والوصول إلى أعلى طاقات الخيال والعبثية، فأنا أنتمي لمدرسة ترفع راية المتعة الفنية، يجب أن يكون الأدب ممتعا دون شعارات أو ادعاءات.
هل كان سردك لخلفيات شخصية "شاهيناز" يُخفي رغبة منك في منح مبررات للتعاطف معها؟
لا ليست مبررات للتعاطف، هذا في إطار رسم الشخصية الجيد، وسرد تاريخ الشخصية، فشاهيناز في حياتها مأساة، وتحولات فانتازية، وفي حياتها السابقة معاناة استمرت معها وتحولت بسببها حياتها اجتماعيا دونا عن بنات جيلها، وانتقلت من ضحية إلى شخصية منبوذة، حتى من أسرتها، حتى تحولت لبائعة للوازم الموت، ومع ذلك هذه ليست مبررات ومسوغات للتعاطف، هذا تقديم يصل بالقارئ لفهم المشهد الراهن الذي تعيش به شاهيناز في بلد المحيط.
كيف اشتغلت على ضبط حبكات الشخصيات الفرعية؟
كان من تحديات الرواية ضبط "هارموني" النص، وعيني على اللعبة الفنية وإلى أين ستقودني، وربما كان هذا هو السبب في أن أعيد الكتابة أكثر من مرة، فهناك صوت رئيسي بدأت به في بداية النص وهو البحث عن قصة حب في بلد لم يعد به أطفال، وكان لدي هاجس حول كيفية تخلل هذا الصوت في ثنايا النص دون ثرثرة أو تكرار، دون أن تعلو نغمته أو يفلت مني، وكانت نقاشاتي مع الناشر فايز علام مُثمرة في هذا السياق كثيرا، بحيث لا تعطله الحبكات الفرعية أو تُحدث ارتباكا في تدفق النص.
هل توقفت أمام اختيارات تخص اللغة المستخدمة في الرواية؟
كان من ضمن نقاشاتي مع الناشر لماذا أضع على ألسنة الرواية الحوار بالعامية المصرية، رغم أنه كان منحازا لهذا أيضا، ولكنه سألني عن منطقي الفني في هذا، وقلت ببساطة لأنني كاتب مصري، فكنت لا أتخيل الحوار في هذه الرواية بالفصحى.
ماذا عن عنوان الرواية، هل كان محيرا؟
نعم جدا. كنت أبحث عن عنوان جاذب يحتوي ويحمل الجرعة المكثفة من الفانتازيا والعبثية والديستوبيا في الرواية، وتصورت أن "النسوة اللاتي" قد يكون سؤالا مبطنا، فهن النسوة اللاتي استبسلن، ووقفن من أجل الحب، ومن يبادرن، حتى أكبر الحروب في الأسطورة حدثت كثيرا بسبب النساء، فحرب طروادة كانت بسبب هيلينا، كنت أبحث عن عنوان لافت وآسر ويطرح لدى القارئ سؤالا يثير فضوله، عنوان يتوقف عنده أي عابر.
برأيك، هل خدمت وسائل التواصل الاجتماعي الكاتب؟
السوشيال ميديا روّجت فعلا للأدب بشكل غير مسبوق في العالم العربي، ولكن هذا لا ينفي أنها تُصدر حالة من الزحام الكبير والتشوش بسبب كثرة المعروض، وأتمنى أن يجد الناس وسط هذا الزحام وقتا لقراءة "النسوة اللاتي".
إلى من تُدين بكتابة "النسوة اللاتي"؟
نجيب محفوظ هو أبي الروحي في فن الرواية، هو مدرستي التي لم أغب عنها يوما، فأنا كل عام أعيد قراءة أعماله كاملة وكأنني طالب في مدرسته، كل عام أعيد قراءة "الثلاثية" و"الحرافيش" و"أولاد حارتنا"، هي الكتب المُعلمة عندي، وفي هذه الرواية أدين بفضل كتابتها لمدارس أدبية أخرى أشير منها إلى مدرسة ساراماجو الأدبية الكبيرة، ومدرسة جورج أورويل، ومدرسة كافكا، فهي مدارس أثرت في كتابتي لتلك الرواية، وكذلك جيكوندا بيلي صاحبة "الكون في راحة اليد" المذهلة، وخوان رولفو وروايته الوحيدة "بيدرو بارامو"، وهو مؤسس المدرسة الفانتازية التي التحق بها كتاب أمريكا اللاتينية حتى قبل ماركيز، هو من وضع عمدان تلك المدرسة.