أحلام خضراء في أتون الحروب.. حين تلد المعارك جيوشا صديقة للبيئة (تحليل)
التغيرات المناخية بما تفرضه من تداعيات اقتصادية وأمنية، تعد من أكبر التهديدات التي تواجه البشرية الآن ومستقبلا.
لذلك بدأ المجتمع العالمي في الاهتمام بما يعرف بـ "سياسات تحول الطاقة"، ويقصد بتحول الطاقة أو "الانتقال الطاقوي" تهميش دور النفط والغاز الطبيعي والفحم بشكل كبير من معادلات الطاقة العالمية والاستعاضة عنها بمصادر الطاقة المتجددة النظيفة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح في الاستخدامات المختلفة.
هذا التوجه لا يقف عند حدود الصناعة ولا والسياحة ولا الأنشطة الاقتصادية المتعددة في الحياة، بل امتد لوزارات الدفاع في جميع الدول، أو ما يتم تسميته في دوائر واسعة عالميا بـ "الجيوش الخضراء".
ويُقصد بالجيوش الخضراء "تحول الجيوش نحو استخدام مصادر الطاقة الصديقة للبيئة والمتجددة"، من خلال السعي إلى إحداث تغييرات استراتيجية في بنية الجيوش والتوجه نحو بناء منظومات تُقلل من الاعتماد على الأسلحة التي تزيد من الانبعاثات الكربونية، بجانب الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة لتوفير الاحتياجات الطاقوية للجيوش، فضلاً عن التحول في استراتيجيات الجيوش والانتقال من عقيدة مواجهة التهديدات التقليدية، ووضع التهديدات غير التقليدية وظاهرة التغيرات المناخية على رأس أولوياتها.
لماذا الآن؟
دفعت الحرب في أوكرانيا جيوش أوروبا إلى التأكد من ضرورة الإسراع للتخلي عن الوقود الأحفوري، ليس هذا بدافع القلق على تأثيرها المناخي الكبير، ولكن لتجنب الوقوع كرهائن بسبب الإمدادات التي تتحكم فيها روسيا فضلا عن ارتفاع أسعار الطاقة.
ونقل تقرير لمجلة "بوليتيكو" الأمريكية عن كونستانتينوس هادجيسافاس، مدير الطاقة في وكالة الدفاع الأوروبية، وهي هيئة تابعة للاتحاد الأوروبي أن هناك مصلحة حقيقية للجيوش لأن تصبح أكثر مرونة في مجال الطاقة.
بينما قالت يانا بوبكوستوفا، مديرة مركز الطاقة والتحليل الجيوسياسي في المملكة المتحدة، إن اعتماد القارة على إمدادات روسيا من الغاز الطبيعي ومنتجات النفط المكرر مثل الديزل يؤكد الخطر الهائل للاعتماد على سلاسل التوريد القائمة على الوقود الأحفوري في العمليات العسكرية".
الوقود الأحفوري
وفي مؤتمر ميونيخ للأمن الذي انعقد العام الحالي، قالت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إنهم بصدد صياغة خطة جديدة لإبعاد جيوشهم عن الوقود الأحفوري، مع توقع صدور تعهد مشترك بهذا الشأن خلال هذا الربيع.
هذه الخطة والاستراتيجية المرتقبة ليست المرة الأولى التي تتحول فيها الجيوش إلى مصادر الطاقة المتجددة، حيث يشير بنجامين نيمارك، المحاضر في جامعة كوين ماري بلندن، إن البحرية الأمريكية قد أطلقت مبادرة تحت أسم " الأسطول الأخضر"، التي أُعلن عنها خلال حرب العراق وكانت تستهدف استخدام الوقود الحيوي للسفن الحربية. كما أقر الجيش الأمريكي أيضًا خطة لتعزيز مصادر الطاقة المتجددة في أفغانستان لتقليل اعتماده على الوقود المستورد بسبب المخاطر.
وقال نيمارك لإن الاعتماد على بنية تحتية للوقود الأحفوري يمثل مشاكل ومخاطر عديدة، كما قال تقرير بوليتيكو إن هذا التحول يظهر من خلال حلول الطاقة المتجددة المبتكرة التي تم نشرها بالفعل في ساحة المعركة في أوكرانيا.
ألواح شمسية
وتوضح أولغا ميشيلوت من مجموعة هيليوس ستراتيجيا للطاقة الشمسية، إن الشركة حولت عملياتها في منطقة دنيبروبتروفسك جنوب شرق أوكرانيا إلى الإنتاج العسكري في بداية الصراع، حيث قامت ببناء ألواح شمسية بقدرة 300 كيلووات تُستخدم لتوفير الطاقة الاحتياطية لشحن أجهزة الراديو والإضاءة والأجهزة المحمولة لأنظمة الدفاع الجوي.
وقالت إن أبرز مزايا تلك الالواح أنها تعمل بصمت ومن ثم فلا تجذب الانتباه وذلك على عكس المولدات العادية.
ونقل التقرير عن فاليري بيرتو، مديرة سياسة المنتجات في شركة الصناعات الدفاعية الفرنسية تاليس، "إن الحرب زادت اهتمام دول الاتحاد الأوروبي بالمعدات العسكرية الموفرة للطاقة".
ولا تعد هذه هي المرة الأولى التي تتحول فيها الجيوش إلى الطاقة الجديدة والمتجددة وقد استثمرت شركة "تاليس" بالفعل في تطوير عدد من التقنيات الجديدة شملت نظام إدارة الطاقة المدعوم ببطاريات الليثيوم التي يمكن تركيبها في المركبات القتالية لجعلها أكثر هدوءًا وتسمح لها بإستخراج الطاقة من الشمس.
وبدأت الشركة - التي أبرمت عقودًا مع العديد من حكومات الاتحاد الأوروبي - مؤخرًا في تقديم منظار حراري جديد تكتيكي يعمل ببطاريات الليثيوم قادر علي اكتشاف الأهداف بالأشعة تحت الحمراء ويزن 2.5 كيلوجرام ، أي ثلاث مرات أخف من أجهزة المنظار التقليدية.
كما يختبر الجيش الهولندي استخدام الطائرات بدون طيار التي تعمل بالطاقة الشمسية ، وكذلك الخيام المصنوعة من القماش المجهزة بألواح شمسية.
39 إجراءً
و بناءً على الجهود السابقة للتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، قامت وزارة الدفاع الفرنسية باتخاذ 39 إجراءً في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي يهدف إلى تقليل الطاقة المستهلكة في المنشآت العسكرية بنسبة 10% في عام 2024. وتشمل استبدال المصابيح التقليدية بمصابيح موفرة للكهرباء "ليد"وتحسين كفاءة الطاقة في مراكز البيانات.
وانتقلت التغييرات إلى المستوى السياسي، حيث إنه بعد وقت قصير من اندلاع الحرب، وافقت دائرة العمل الخارجي الأوروبي، ذراع الخدمة الخارجية للاتحاد، على خطة عمل جديدة متوسطة المدى بشأن السياسة الدفاعية تتضمن خارطة طريق بشأن التعامل مع تغير المناخ ومتطلبات الدفاع باعتبار أن القوات المسلحة بحاجة إلى الاستثمار في تقنيات صديقة للبيئة من خلال مخزون قدراتها وبنيتها التحتية.
وتشير الخطة إلي الاعتماد علي البنية التحتية للنقل الأكثر اخضرارًا ومركزية البيانات حول استهلاك الطاقة باعتبارها أولوية خاصة لجيوش الاتحاد الأوروبي.
وفي مذكرة موجزة اطلعت عليها بوليتيكو، أبلغت دائرة العمل الخارجي الأوروبي في ديسمبر/ كانون الأول دول الاتحاد الأوروبي أن الحرب فى أوكرانيا تؤثر على إنتاج الطاقة المرتبط بالقوات المسلحة.
وقالت إن معظم القدرات العملياتية العسكرية للاتحاد الأوروبي تعتمد على النفط ، ويتعين على الاتحاد دراسة إمكانية تسريع وتيرة إزالة الكربون عن الأنشطة العسكرية
خفض الانبعاثات
ويشير الباحثون إلى أن الحرب أعاقت التقدم المحدود بالفعل في جعل جيوش الاتحاد الأوروبي صادقة بشأن تأثيرها على المناخ والعمل بجدية أكبر لخفض الانبعاثات.
وفي مواجهة التوترات الجيوسياسية المتزايدة والتوسع المحتمل للتحالفات مثل الناتو ، قد لا يكون تغير المناخ الأولوية التشغيلية القصوى لجيوش العالم في الوقت الحالي .
وأقر مركز التميز لأمن الطاقة التابع لحلف الناتو في دراسة نُشرت قبل أيام بضرورة قيام الجيوش بالحد من انبعاثاتها.
كما قدمت دراسة أعدت للبرلمان الأوروبي العام الماضي تقديرًا متحفظًا للانبعاثات العسكرية في عام 2019 بنحو 25 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون اي حوالي 1% من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري السنوية في الاتحاد الأوروبي.
وتمت مناقشة قضية الانبعاثات العسكرية لأول مرة في جناح قطري ألماني في قمة المناخ العالمية في غلاسكو في عام2021 ، وفقًا لبوبكوستوفا.
تبع ذلك التزام من سلاح الجو الملكي البريطاني بصافي صفر انبعاثات بحلول عام 2040 ووافقت دول الناتو في عام 2021 على "تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بشكل كبير"
وقال نيلز فوغلسانج عضو البرلمان الأوروبي ، الذي يقود عمل البرلمان الأوروبي بشأن توجيه كفاءة الطاقة ، إنه تم إجراء تعديلاً يعفي الجيوش الأوروبية من وضع أهداف التجديد لرفع كفاءة الطاقة لتجنب إثقال كاهلهم بمتطلبات إضافية.
ويشير هادجيزافاس من وكالة الدفاع الأوروبية أنه من الضروري التأكيد علي أهمية تحقيق التوازن بين مهمة القوات المسلحة وانتقال المؤسسة العسكرية إلى الطاقة الجديدة والمتجددة.