على أطلال وطنٍ تناثرت فيه الجراح، يتأرجح السودان بين رماد الحرب وأملٍ يلوح في الأفق،
على أطلال وطنٍ تناثرت فيه الجراح، يتأرجح السودان بين رماد الحرب وأملٍ يلوح في الأفق، بينما الأنظار مشدودة نحو واشنطن، حيث تستعد الرباعية الدولية؛ (الولايات المتحدة، الإمارات، السعودية، ومصر)، لعقد اجتماعٍ مفصلي في أواخر هذا الشهر. لقاء تُعقد عليه تطلعات مثقلة بالتوجس، في بلدٍ أنهكته نيران الصراع، وابتلعته واحدة من أعنف الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، انفتحت أبواب الجحيم على الشعب السوداني؛ آلاف القتلى، ملايين من النازحين واللاجئين، انهيار كامل للقطاعين الصحي والاقتصادي، وخراب شامل يعصف بالعمران والإنسان معًا. الأزمة التي لم تترك بيتًا سودانيًا إلا واقتحمته، تقف اليوم أمام فرصة نادرة، ربما تكون الأخيرة، لوضع حدٍ لهذا النزيف الوطني.
لكن قبيل أن تنعقد الاجتماعات، علت ضوضاء هستيرية في معسكر الإسلاميين، أو ما يُعرف في الوعي الجمعي السوداني بـ”الكيزان”، وهم الذين أشعلوا شرارة الحرب تحت عباءة الجيش، طلبًا للعودة إلى الحكم بعد أن لفظهم الشارع عقب الثورة. تحركاتهم المشبوهة تستشعر جدية دولية غير مسبوقة هذه المرة، وتقرأ في المشهد مؤشرات على تسوية حقيقية قد تُنهي الحرب، بل وتُقصيهم تمامًا من المشهد، وهذا ما لا يمكنهم السماح به.
تكشّفت ملامح هذه الهستيريا في حملات التضليل التي تشنّها منابرهم الإلكترونية والدعوية، وفي تهديداتٍ مبطّنة حملها تصريح القيادي الإسلامي أحمد هارون - المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية - والذي ربط بوقاحة مصير الجيش بمصير الحركة الإسلامية، في محاولة لابتزاز المؤسسة العسكرية ذاتها، التي يسيطرون على قيادتها، وتحذيرها من مغبة القبول بأي تسوية لا تحجز لهم مكانًا واسعًا فيها.
ولكن هذه ليست سابقة. فلقد دأب الإسلاميون على تقويض كل فرصة للسلام منذ اندلاع الحرب: أفشلوا إعلان جدة، وأحبطوا اتفاق المنامة في يناير 2024، ثم نحروا منبر جنيف منتصف العام الماضي، دونما تردد أو حياء. لم يفعلوا ذلك فقط لأنهم يؤمنون بعقيدة "الدم طريق إلى السلطة"، بل لأن هذه الحرب بالنسبة لهم حرب وجود؛ إما أن يخرجوا منها عائدين إلى كراسي الحكم، أو فلتُحرَق البلاد بمن فيها وما فيها!
وما لم يتم استيعاب هذه الحقيقة، فإن أي محاولة لوقف الحرب ستكون مهددة من داخلها، ومحمومة بالفشل.
إن الطريق إلى السلام لا يمر فقط عبر الدعوة إلى وقف إطلاق النار، بل يمر أولًا عبر كسر اليد التي تشعل النار كل مرة وتمنع إطفاءها: يد الحركة الإسلامية وتنظيمها العقائدي وامتداداتها المسلحة.
الإدارة الأمريكية، والرباعية الدولية - وقد وضعت يدها على نبض الخراب - أن تتحرك بأدوات أكثر جذرية وحسمًا. لم يعد كافيًا إصدار البيانات أو الرهان على النوايا والوعود.
المطلوب الآن إجراءات واضحة تستهدف شلّ قدرة الحركة الإسلامية على التخريب: حظرها، تجميد أصولها، محاصرة منصاتها الإعلامية، وفرض عقوبات فردية وجماعية على قادتها وميليشياتها.
أما الخطوة الأهم، فهي الضغط من أجل وقف فوري شامل ومستدام لإطلاق النار، تحت رقابة دولية صارمة، مع تفعيل آلية تحقق شفافة تمنع الانتهاكات وتحمي المدنيين. لقد بلغت الكارثة الإنسانية ذروتها، ولا يمكن ترك البلاد رهينة لطرفٍ يرى في الحرب سلّمه إلى الحكم.
السودان الآن يقف على مفترق، لكنه ليس مفترق الجيش والدعم السريع فقط، بل مفترق وطنٍ يُراد له أن يُختطف مرة أخرى باسم الإله وبندقية الظلام. والمجتمع الدولي، وهو يلتقي في واشنطن، مدعوّ لا فقط لوقف حرب، بل لردّ كيد مشروعٍ كامل إلى نحره، مشروعٍ لم يعرف عبر تاريخه إلا الحرب طريقًا، والدم مهجرًا، والسلطة صنمًا.
فلتكن واشنطن هذه المرة موعدًا للحسم، لا للمساومة. فالسودان لا يحتمل تأجيلًا آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة