لم تتمكن سوريا الجديدة من التقاط أنفاسها بعد، والذي لم يقم به السوريون منذ عام 1970..
حين قاد حافظ الأسد انقلابا أطاح بالزعيم السوري صلاح جديد وعيّن نفسه قائدا لسوريا، أي ما يقرب من خمسة وخمسين عاما، ويُنتظر اليوم من الرئيس أحمد الشرع أن ينجزه في أقل من عام! هذا ليس منطقا سياسيا، بل تعجيز غير واقعي.
فتخليص الدولة من تركة النظام السابق يحتاج إلى مرحلة انتقالية متأنية، وإعادة بناء هيكل الدولة السياسية والمؤسسية تتطلب زمنا واستقرارا. فكيف هو الحال، والمكونان الأساسيان: الأكراد في الشمال والدروز في الجنوب، لم يقدّما موقفا نهائيا بعد؟ بل يراوحان في المسافة الرمادية، يقدم كل منهما قدما ويؤخر الأخرى تجاه العودة إلى الجسد السوري الواحد، بشمالها وجنوبها وشرقها وغربها.
هذا التردد، في ظل الإقليم المضطرب، يفتح المجال أمام الطامعين التاريخيين كإيران وغيرها وكذلك أمام الأحلام الإسرائيلية الصريحة بتقسيم سوريا أو على الأقل، إحكام السيطرة على جنوبها. ومع ازدياد نشاط الجماعات الإرهابية، وتكرار الحوادث الدموية التي أثارت استياءً داخليا واسعا ورفضا دوليا متزايدا، فإن المعادلة تزداد تعقيدا.
المشهد الإقليمي - السوري اليوم يغازل دبلوماسيا حديثا جديا عن علاقات سورية – إسرائيلية، وهو حديث قديم في ذاكرة الصراع العربي الإسرائيلي. فمنذ 1948، وحتى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، شكّلت المواجهة مع إسرائيل محورا بنيويا في تشكيل الوعي السياسي السوري. وبعد احتلال الجولان في 1967 وقرار الضم عام 1981، تحوّلت المنطقة إلى عقدة أمنية دولية، ظلت تشتعل كلما تهاوت المعادلات الإقليمية.
اليوم، تتجدد معطيات الماضي بصورة أكثر تعقيدا. فالغارات الإسرائيلية المتكررة على دمشق والسويداء تُعيد رسم قواعد الاشتباك، وتُربك مساعي الحكومة الجديدة للانفتاح السياسي، رغم انخراطها في ترتيبات أمنية مؤخرا، ترعاها أطراف فاعلة ومنها دولة الإمارات العربية المتحدة، لتقليص مساحة التوتر جنوب البلاد.
ففي باريس، جرت محادثات رفيعة بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ونظيره الإسرائيلي للشؤون الاستراتيجية "رون ديرمر"، برعاية المبعوث الأمريكي توم براك. تركّز النقاش على ترتيبات أمنية مرحلية، تمنع الانفجار وتُمهد لمسار أكثر هدوءا في الجنوب. هذه المحادثات تشير إلى مرحلة جديدة في التعامل السياسي، لكنها لا تعني بأي حال ولادة مسار تطبيع شامل.
الساحة السورية منقسمة حاليا بين حكومة وقوى تسعى لتثبيت سيادة الدولة، وفصائل مسلحة تتحرك وفق أجندات عابرة للحدود. ويواجه الشرع تحديات عدة على رأسها دمج هذه الفصائل المسلحة، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ضمن مؤسسات الدولة، وفق اتفاق مارس/آذار 2025 مع مظلوم عبدي، لكن استمرار بعض القيادات الكردية في رفض تسليم السلاح يعقّد هذا المسار.
أما في السويداء، فتشتد الأزمة مع بروز شخصيات مثل حكمت الهجري، الذي يستخدم الخطاب الديني والرمزي العاطفي كغطاء لتحريك الساحة وزيادة الضغوط على حكومة دمشق، خلال الأسبوعين الماضيين، ولم تتمكن زعامات درزية وطنية أخرى موزونة على لجم هذا التناقض والارتباك، فبات الجميع ينظر للدروز نظرة تشكك في هويتهم القومية وليس العرقية.
لا تزال حكومة الشرع تحظى بالدعم الخليجي اللوجستي، خاصة من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تنظر إلى سوريا مستقرة كأولوية استراتيجية تساهم في أمن الإقليم وتخفف من زخم الجماعات المتطرفة. وتؤدي أبوظبي دور الوسيط الإقليمي القادر على تهدئة المشهد، خصوصا في الجنوب، من خلال مساعٍ ناجحة، حيث أكدت تقارير دولية أن أبوظبي اشترطت على إسرائيل مثلا الانسحاب من بعض النقاط التي احتلتها مؤخرا في القنيطرة، كجزء من اتفاق تهدئة أوسع، يشمل دعم إعادة إعمار سوريا وتطبيعها اقتصاديا. هذا الدور المتوازن يمنح الإمارات موقعا محوريا، خاصة مع تبنيها مقاربة تتجاوز الثنائية التقليدية بين الحرب والسلام.
إدارة ترامب، من جهتها، تعتمد نهجا واقعيا يعتمد رؤية أبوظبي أيضا، يُركّز على اختبار التزامات الشرع عمليا. لذلك رُفعت بعض العقوبات، ضمن حزمة شروط تتضمن مكافحة الإرهاب، وإعادة هيكلة العلاقات مع الفصائل، ودمج مكونات البلاد ضمن مؤسسات وطنية موحدة، لكن إسرائيل في المقابل تواصل استثمار الفوضى، وتُمارس ضغوطا متعددة، أبرزها التلويح بمشاريع تهجير سكان غزة نحو سوريا، في إطار مقترحات توسعية يجري تداولها داخل الدوائر الإسرائيلية. وتبقى هذه الطروحات محل رفض عربي واسع، يُصر على دعم حق الشعب الفلسطيني في أرضه، ويرفض استخدام الجغرافيا السورية كأداة تسكين مؤقت.
تجربة الشرع حتى الآن تثبت أنها تتحرك وفق رؤية متدرجة، تجمع بين السيادة والانفتاح، وتوازن بين متطلبات الأمن الداخلي ومصالح الشركاء الدوليين. ومع تنامي الدور الإماراتي، وبروز خطاب عربي جديد يدعم استعادة القرار السوري من أيدي الفوضى، تبدو سوريا أمام فرصة تاريخية لإعادة التموضع، بعيدا عن النزاعات التي استنزفتها لعقد كامل، ويرى بعض المراقبين أن مفاوضات "عدم الاعتداء" قد تفتح الباب لمرحلة مؤقتة من الهدوء، تسمح بإعادة ترميم البنية السياسية للدولة، وتجديد التوافقات الوطنية حول مستقبل سوريا كوحدة غير قابلة للتجزئة.
في موضوعات فلسفة الوحدة والانفصال والاستقلال، فإن الدعوة إلى وحدة المكونات السورية في سوريا قوية موحدة شيء، والدعوة إلى فسخ اتفاق الوحدة المشؤوم بين اليمن والجنوب العربي شيء آخر مختلف كليا، وهنا ينبغي التمييز التاريخي الواضح. الجنوب العربي يمتلك إرثا سياسيا مستقلا، وتاريخا من السيادة والمؤسسات، ويستند إلى هوية وطنية جامعة. أما مكونات الدولة السورية، من عرب وكرد ودروز وعلويين وغيرهم، فتنتمي إلى صيغة وحدة سياسية استُكملت منذ عقود طويلة، وتطوّرت عبر مفاهيم المشاركة الاجتماعية الثقافية السياسية الوطنية.
التجربة السورية الجديدة مرشّحة اليوم لتكون أول حقيقة لنموذج لم يُختبر بعد، وهي إعادة بناء دولة بعد عقود من العزلة ثم الصراع والاضطراب والفوضى. دولة تُعيد الاعتبار للمؤسسات، وتُشرك كل أبنائها بكافة أطيافهم السياسية والدينية والعرقية والفكرية، وتعيد توجيه بوصلة دبلوماسيتها نحو الأمن والتنمية المستدامة والاستقرار والازدهار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة