يُعد الإنسان كائنًا متعدد البُعد، تتنازعه قوى متعارضة بين ما يجب أن يكون عليه فعله من منظور أخلاقي، وما يُمليه عليه الواقع من منافع عملية مباشرة.
هذا التوتر البنيوي بين الأخلاق والبراغماتية يمثل إحدى أبرز الإشكاليات التي واجهها الفكر الإنساني عبر العصور، وظل محورًا أساسيًا في الفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، بل وفي ممارسات الحياة اليومية.
فالصراع بين "ما ينبغي أخلاقياً" و"ما ينفع" لا يتجلى في مستوى التفكير فقط، بل يمتد إلى أفعال الإنسان وسلوكياته، التي تتشكل بفعل التفاعل بين المبادئ القيمية والضرورات العملية.
في جوهرها، تسعى الأخلاق إلى توجيه السلوك الإنساني نحو منظومة قيمية تدور حول الخير، العدل، والوفاء، استنادًا إلى مرجعيات دينية أو فلسفية أو إنسانية.
الإنسان الأخلاقي لا ينتظر رقابة خارجية ليقوم بواجبه، بل يُحركه ضميره الداخلي الذي يُلزمه بالتصرف وفق ما هو صائب، حتى إن كان ذلك على حساب مصلحته الذاتية.
يتجلى هذا النوع من السلوك في المواقف التي يختار فيها الفرد التضحية بمكاسب مادية أو وقتية من أجل الحفاظ على مبدأ أو حماية قيمة سامية ارتضاها محركاً لسلوكه، كالصدق أو الإخلاص أو النزاهة.
ومع ذلك، فإن التمسك المطلق بالمبادئ الأخلاقية لا يخلو من التحديات، خاصة حين يواجه الإنسان ظروفًا قاهرة أو ضغوطًا واقعية قد تهدد وجوده أو مصالح من يحب.
على النقيض، يُعلي الإنسان البراغماتي من شأن النتائج الملموسة واتخاذ قرارات مبنية على حسابات النفع والخسارة دون غيرهما.. فالفعل البراغماتي لا يُقاس بصحته الأخلاقية، بل بقدرته على تحقيق الهدف أو المنفعة المرجوة.
وقرارات البرغماتية تتخذ على أساس نفعي صرف، حيث تُبرر التصرفات بعبارات مثل: "الغاية تبرر الوسيلة" أو "هذا ما تفرضه الضرورة".
غير أن البراغماتية إذا انفصلت عن الضمير الأخلاقي، قد تُفضي إلى الانتهازية، وتُضعف منسوب الثقة في العلاقات الإنسانية، وتُسهم في تآكل العقد الاجتماعي.
من هذا المنطلق، تبدو الحاجة ماسة إلى إقامة توازن مرن بين الاعتبارات الأخلاقية والمصالح العملية. فليس المطلوب نفي أحد القطبين لصالح الآخر، بل السعي إلى التكامل بينهما وفق منطق واقعي يراعي الظرف، ويحتكم إلى الضمير.
الإنسان الواعي هو من يُحسن توظيف البراغماتية دون التخلي عن القيم الجوهرية، ويُمارس الأخلاق دون أن ينسحب من مواجهة تعقيدات الواقع.
في هذا التوازن، تتحقق الشخصية الناضجة التي تتصرف وفق وعي عميق، لا مجرد ردود أفعال أو مصالح آنية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة