يتواصل الجدل في أوروبا حول الماهية المطلوبة في تحديد القواعد لإدارة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب.
ولا يخفى على أحد أن هذا الجدل تعزّزَ مع مقاربة ترامب الخاصة بإعادة تعريف العلاقات التجارية الأمريكية مع مختلف دول العالم بالطريقة التي تخدم المصالح الأمريكية – حسب وجهة نظر ترامب – بالدرجة الأولى. ولعل التساؤل الذي يبرز في هذا الجدل المحتدم هو: ما طبيعة الاقتصاد الغربي الذي سيتمخض بعد هذه الأحداث التي نعيشها؟ وما تأثيرها في تسيُّد الفكر الرأسمالي على العالم؟
إن النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد الليبرالي، التي تراهن على أهمية التجارة الحرة، والسوق العالمية الحرة، أصبحت نوعًا ما على المحك، خصوصًا مع مقاربة ترامب الخاصة بالتعريفة الجمركية.
ومن شأن مآلات هذا التغير، الذي يشهده الاقتصاد العالمي، أن تؤدي إلى إفراز بيئة دولية جديدة، بموازين جديدة، لا شك في أنها ستُنتج تعريفات غير مسبوقة لطبيعة العلاقات الدولية. وستكون هذه العلاقات محكومة بشبكة مصالح معقدة، وحماية هذه المصالح – بالنظر لسلوك الفواعل الدولية الحالية – لن تكون بالضرورة متماهية مع الأعراف الدولية التي اعتدناها.
أحد أهم الإرهاصات، التي تُدلل على أننا مقبلون على هذه الحالة، هي آخر المستجدات في سياسات ترامب تجاه الدول الأوروبية؛ فمن المقرر، في الأول من أغسطس/آب، أن تُطبَّق الرسوم الجمركية على الدول الأوروبية، التي ستكون بنسبة 30%.
هذا التطبيق من شأنه أن يرفع من حدة الأسعار على الطرفين، المُصدّر الأوروبي للدخول للسوق الأمريكية، والمستهلك (المُفترض) أن يتحمل هذه التكاليف. ولكن بطبيعة الحال، وبحكم ارتفاع الأسعار، فمن الطبيعي أن يلجأ المستهلك الأمريكي للبدائل، وهذا الأمر سينعكس دون شك على مستوى المبيعات الأوروبية في السوق الأمريكية.
ومن هنا، فإن السوق الأوروبية، شِئنا أم أبينا، ستكون متأثرة في نهاية المطاف؛ فتعويض الخسائر سيكون برد فعل عكسي على المستهلك الأوروبي.
وعلى الرغم من تأكيدات وزير التجارة الأمريكي، هوارد لوتنيك، بأن مجالات الاتفاق ممكنة، حتى بعد بدء سريان تطبيق التعريفات الجمركية في أغسطس، فإن انقسام الرؤى الغربية سيضفي تعقيدات على المشهد الاقتصادي الغربي. ففي الوقت الحالي، هناك مدرستان في أوروبا تختلفان في طريقة التعاطي مع السياسات الأمريكية؛ تراهن الأولى على ضرورة الاستقلال الاقتصادي والدفاعي، وقد تجلى ذلك في الدعوات لتطبيق الأداة القانونية الأوروبية التي تُدعى "مكافحة الإكراه" (Anti‑Coercion Instrument) وتتمحور حول الرد بتطبيق إجراءات متعددة: كرفع التعريفات أيضًا، وفرض قيود على المناقصات العامة، وربما استهداف شركات رقمية أمريكية، مثل أمازون ونتفليكس وغيرهما. أما المدرسة الأخرى، فترمي إلى التسوية والتعاطي مع "الوضع الراهن"؛ لتعزيز روح الوحدة الأوروبية–الأمريكية. إن سلوك رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، متوافق مع هذه المدرسة، خصوصًا منذ لقائها ترامب في شهر أبريل من هذا العام، ودعوتها إلى إبرام اتفاق متوازن مع رفع شعار "لنجعل الغرب عظيمًا مرة أخرى"، بحسب توصيفها، ليكون مماثلًا لشعار ترامب "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
إن الحاصل في الساحة الاقتصادية الغربية يُذكّرنا بمقولة أبي الاقتصاد، آدم سميث، التي جاء فيها: "ليس من إحسان الجزار أو الخباز أن نحصل على طعامنا، بل من اهتمامهم بمصلحتهم الخاصة"؛ أي أن المصلحة الاقتصادية هي الحَكم في نهاية المطاف في تحديد وتعريف العلاقات الأوروبية–الأمريكية في المستقبل، وهذه المصلحة من شأنها أن تحدد معالم الاقتصاد الغربي إن كان سيسلك مسارًا تصاعديًّا أو مضطربًا أو منحدِرًا في الفترة المقبلة.
وفي الوقت نفسه، فإن مقاربة ترامب المعتمدة على "الواقعية الاقتصادية"، التي تُعد فرعًا لـ"الواقعية الكلاسيكية"، ستؤدي إلى حالة من الارتباك في العلاقات الأمريكية–الأوروبية، التي لا شك في أنها ستؤثر سلبًا في أحد الطرفين، وقد تخلق فرصًا جديدة لأطراف دولية أخرى خارج هذه المعادلة؛ للاستفادة مع الطرفين الأوروبي والأمريكي، كلٌّ على حدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة