هناك العديد من التحولات الكبرى التي طرأت على مفهوم الأمن، ليس من باب الصراعات المسلحة أو النزاعات التقليدية، بل من بوابة الفكر.
فقد باتت "المعركة" اليوم معركة على العقول، لا على الحدود، ومعركة ضد التطرف والكراهية والتشويه، لا فقط ضد الإرهاب.
والأمن الفكري بهذا المفهوم هو ركيزة الدولة المستقرة، وقاعدة المجتمع المتماسك، وجدار الصد الأول ضد الفوضى المعرفية والانزلاقات العقائدية التي تهدد كيان الأوطان من الداخل.
الأمن الفكري ليس مجرد شعار، بل هو التزام وطني وأخلاقي، ومشروع تنويري طويل الأمد، يبدأ من المدرسة ولا ينتهي عند القانون، وهو مسؤولية جماعية تبدأ من الأسرة، وتُبنى في الصف الدراسي، وتُحصّن في وسائل الإعلام، وتكرّس في السياسات العامة.
نعيش اليوم في زمن التحولات الرقمية الكبرى، حيث أصبحت الأفكار تنتشر بسرعة الضوء، لكن التثبت منها لا يسير بذات السرعة، وفي هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى تعزيز المناعة الفكرية في مواجهة الفكر المتطرف، والخطاب التحريضي، ونظريات المؤامرة.
ولأن الكلمة أصبحت أداة اختراق، فإن الدفاع عن العقول لا يقل أهمية عن الدفاع عن الحدود، وهنا تبرز أهمية الإعلام المسؤول، والتعليم النقدي، والتربية على الحوار والاختلاف، لا على الإقصاء والتكفير والتخوين.
السؤال الذي أطرحه اليوم ليس: هل نحن بحاجة إلى تعزيز الأمن الفكري؟ بل: كيف يمكننا تحويله إلى ممارسة يومية ومنظومة وطنية متكاملة؟
الجواب، من وجهة نظري المتواضعة، يبدأ بإعادة الاعتبار للفكر العقلاني النقدي، وتمكين المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية من أداء دورها التنويري، ووضع سياسات عامة تُحصّن المجتمع لا تُرعبه، وتُقنعه لا تلقنه، وتستثمر في الإنسان لا تكتفي بضبطه.
نحن دون شك بحاجة إلى خطاب يحرر العقول لا يُقيدها، ويُواجه التطرف بالتفكيك لا بالقمع، ويكرّس روح المواطنة، والمجتمع الذي يتمتع بأمن فكري حقيقي هو ذاك الذي يستطيع أن يحتضن اختلافاته لا أن يفجّرها.
فالدول القوية لا تُخترق من الخارج بقدر ما تُستهدف من الداخل عبر الفكر، والوعي، والانتماء الهش.. ومن هنا يبدأ الرهان الحقيقي في الحفاظ على المجتمعات… فكرياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة