تقليب بعض صفحات تاريخ الاستراتيجية الأمريكية، وما سطرته أقلام النخب السياسية على مدار قرن ونيف بشأن التعامل مع الاتحاد السوفيتي سابقا، ومع روسيا راهنا، من شأنها المساهمة في فهم وتفسير ظاهرتين وسمتا علاقات القطبين على مر أكثر من عشرة عقود من الزمن،
وقد يكون النزاع الروسي الأوكراني الحالي أكثر الأمثلة عمقا وتجلياً لسياقات الصراع، أولى الظاهرتين تتمثل في طغيان مفهوم "العدو الشامل" في خطاب كل طرف ضد الآخر. وثانيها يتجسد في سعي كل منهما للتأثير على مصالح الآخر واستغلال أي ظرف أو معطى داخلي أو خارجي، سياسي أو عسكري أو اقتصادي، لتشكيل منصة هجومية ضده. تلتقي روايات كتب التاريخ عند دور وتأثير "نزعة الهيمنة" التي تتضخم عند دولة ما في لحظات من سيرورتها التاريخية بحيث تتحول إلى فعل تحريضي، ولا تتردد في سلوك مختلف المسارات، منها تحويل الفعل السياسي من مبدأ تفاوضي إلى سلوك ميداني استئصالي بشكل مباشر كما حصل في الحرب العالمية الثانية بين واشنطن من جهة وألمانيا واليابان من جهة أخرى، أو بطريقة المواجهة غير المباشرة كما يحدث اليوم في النزاع الروسي الأوكراني . من صفحات التاريخ الأمريكي المعاصر المتعلقة بالاتحاد السوفيتي وروسيا ؛ تبرز آراء صاحب الأفكار الأكثر إثارة للجدل ، هنري كيسنجر ، فهو من عارض الاعتقاد السائد بأن تفكك الاتحاد السوفيتي يعني فعليا "انتهاء النوايا العدائية وبطلان الاعتبارات السياسية الخارجية التقليدية" ، لا بل حذر من مغبة شراكة ألمانية - روسية تحت أي عنوان ، ولذلك كان العمل منصبا في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ، على بلورة تناقضات جدية بين الدولتين تمنع إمكانية التقارب والتفاهم والشراكة بين موسكو وبرلين ، وعلى المنوال ذاته سار بريجنسكي في ما أنتجه من نظريات وآراء تعزز مفهوم "العدو الشامل" السوفيتي - الروسي . يعتقد كثيرون أن الأطر النظرية لاستراتيجية واشنطن وسياستها بشأن روسيا الحالية والاتحاد السوفيتي السابق إنما مردها إلى مُنظّرين معاصرين فحسب، لكن صفحات التاريخ تكشف عن أن جذورها تعود إلى سابقين لهم. في شهر أكتوبر – تشرين أول عام 1945 أطلق مهندس "الحرب الباردة" وصاحب نظرية "احتواء الاتحاد السوفيتي" جورج كينان مقولته الشهيرة: "ليست القوة العسكرية الروسية – السوفياتية هي التي تهددنا، بل إن ما يهددنا بالضبط، هي القوة السياسية الروسية" . كينان الذي عاش قرنا بأكمله وعاما إضافيا، من فبراير - شباط 1904 إلى مارس – آذار 2005 شكل ظاهرة ضمن صفوف النخبة الأمريكية الداعية لتفكيك الاتحاد السوفيتي سابقا وروسيا لاحقا. في عام 1933 تم افتتاح السفارة الأمريكية في موسكو وخدم فيها حتى 1937، وبعد أن طاف عددا من البلدان بصفته دبلوماسيا في سفارات بلاده، عاد في عام 1944 للعمل في السفارة الأمريكية في موسكو واشتهر بمقاله في مجلة "فيرن أفيرز" عام 1947 بعنوان "مصادر التحكم بالاتحاد السوفيتي" ووقعه باسم "السيد إكس" . في تلك الفترة اقترب من الرئيس الأمريكي هاري ترومان ومن وزير خارجيته جورج مارشال ولقيت أفكاره قبولا وتبنياً. ترومان تأثر بشكل واضح بتحذير كينان من الخطر الشيوعي الداهم، وراح يطبق نصائحه التي كان أهمها ضرورة "المبادرة لتلافي الخطر الأحمر" قبل أن يصل إلى الديار، ووصل الأمر بترومان إلى حد اعتبار أن "محاولة ضم اليونان إلى المعسكر الشرقي هو تهديد للأمن الوطني الأمريكي". في عام 1952 تم تعيين كينان سفيرا للولايات المتحدة في الاتحاد السوفيتي وحينها تسبب بأزمة دبلوماسية في العام ذاته حينما قارن الاتحاد السوفيتي بألمانيا النازية. بعد تقاعده من وظيفته الحكومية استمر في عمله الأكاديمي والبحثي والاستشاري حول شؤون الاتحاد السوفيتي وروسيا. في عام 1998 كانت المفاجأة بانقلاب مبدع "نظرية الاحتواء" واستدارته التامة، حين حذر من مغبة توسيع الناتو شرقا، معتبرا أن ذلك التوسع "سيؤسس لحرب باردة جديدة وسيرد الروس تدريجيا بطريقة عدائية ، ويصيغون سياسات لمواجهة هذا التوسع" . سبقه في هذا المضمار ألفريد ثاير ماهان - 1840 - 1914 – حائز لقب "الاستراتيجي الأمريكي الأكثر أهمية في القرن التاسع عشر" وكان ضابطا في البحرية الأمريكية وجيواستراتيجياً و مؤرخًا؛ إذ اعتبر أن روسيا هي مَن "تشكّل أكبر تهديد لمصير آسيا الوسطى"، ومع أنه كان معجبًا بحجم روسيا الممتد عبر القارات ، وموقعها الاستراتيجي المناسب للتوسع جنوبا ، لكنه ، لهذه الأسباب ، رأى حينها ضرورة أن تقاوم "السيادة البحرية الأنجلوساكسونية" روسيا . على أن الجيوسياسي الأمريكي هومر ليا - 1876 - 1912- يتقاطع في كتابه "يوم الساكسون" المنشور في العام 1912، مع ماهان في نظريته، لكنه يوسع دائرة الأعداء انطلاقا من الحامل العرقي بقوله إن "العرق الأنجلو-ساكسوني بأكمله يواجه تهديدا من العرق الروسي السلافي، ويعتقد ليا أن العلاقة "القاتلة" بين روسيا واليابان وألمانيا " كما يصفها ، قد اتخذت ، بضغط من القوى الطبيعية ، هيئة تحالف موجه ضد استمرار السيادة الساكسونية . ثمة من يعتبر أن تاريخ عداء واشنطن تجاه روسيا ظهر جليا وعمليا عام 1918 عندما نشر الرئيس ويلسون أكثر من 7000 جندي في سيبيريا كجزء من جهود الحلفاء لمواجهة تمدد الثورة البلشفية .
القراءة المتأنية لهذه الرؤى تساعد على الوصول إلى بعض الاستنتاجات الواضحة حول محركات النزاع الحالي بين روسيا وأوكرانيا ، والغايات البعيدة لواشنطن من خلفه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة