لم يُجنِّد تحالف البرهان والكيزان أنفسهم، منذ اندلاع الحرب على الشعب السوداني، كما فعلوا بعد إعلان وزارة الخارجية الأمريكية، الخميس الماضي، نيتها فرض عقوبات على سلطة بورتسودان.
تشمل هذه العقوبات قيودًا على الصادرات والوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأمريكية. ومن المتوقع أن تدخل هذه العقوبات حيّز التنفيذ في السادس من يونيو المقبل، على خلفية استخدامهم للأسلحة الكيميائية في الحرب الدائرة حاليًا في السودان.
وعوضًا عن الاعتراف بالخطأ، أو التزام الصمت، والتأكيد على احترام القوانين والمواثيق الدولية التي تحظر استخدام الأسلحة الكيميائية، شنّ الإعلام التابع للكيزان والجيش، الذي تديره جماعة الإخوان المسلمين، حملات جوفاء ضد الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الإمارات العربية المتحدة - كعادتهم - وقدم روايات ضعيفة وسرديات مليئة بالأكاذيب والأوهام حول دوافع العقوبات، التي من شأنها شلّ السودان اقتصاديًّا وسياسيًّا، في وقت يمر فيه بظروف استثنائية.
ومن البديهي أن تلك الادعاءات التي يروّج لها تحالف البرهان والكيزان لا تستند إلى وقائع، بل إلى مزاعم كاذبة عن دعم أمريكي لقوات الدعم السريع، وهي أكاذيب فاضحة لا يصدّقها عاقل. فلو كانت واشنطن تقدّم ذلك الدعم، لما تمكّنت إيران من تزويد هذا التحالف ببندقية واحدة، دعك من منظومات أسلحة كاملة، منها ما يحلّق في السماء، وبعضها محرّم دوليًّا!
الحقيقة الساطعة هي أن الجيش استخدم السلاح الكيميائي، المحظور دوليًّا، ضد قوات الدعم السريع، وما يسميها "حواضنها القبلية" من المدنيين، في أكثر من موقع، مثل مدينة الضعين بشرق دارفور، ومدينة مليط، ومناطق أخرى في شمال دارفور. وقد اشتكى المواطنون هناك من حالات تسمم جماعي، ونفوق الماشية، وظهور أمراض غريبة. كما استُخدم هذا السلاح جزئيًّا في مدينة الخرطوم أثناء انسحاب قوات الدعم السريع، ما أدّى إلى حالات تسمم واسعة، حاولت وزارة الصحة، التي لا وجود فعلي لها على الأرض أصلًا، التستّر عليها، بتوصيفها كأوبئة مثل الكوليرا، متجاهلة السبب الحقيقي لتفشّي الأمراض، لا سيما الجلدية والمعوية، في الخرطوم وأم درمان وبحري.
لم تكن هذه العقوبات الأمريكية وليدة لحظة أو ردّ فعل متسرّع، بل جاءت نتيجة تحقيقات دقيقة، وأدلة دامغة موثّقة، شملت عينات مختبرية وشهادات من مواطنين متضرّرين. بل إن واشنطن سبق أن حذّرت قائد الجيش من استخدام الأسلحة الكيميائية، عندما فرضت عليه وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات في يناير الماضي. وقد نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" حينها، عن أربعة مسؤولين أمريكيين، أن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيميائية مرّتين على الأقل في معاركه. وبالاستناد إلى تقارير استخبارية وصحفية، وأدلة مادية، فُرضت عليه العقوبات، على أمل ردعه. لكنه استمر في استخدام السلاح الكيميائي، وواصل الإنكار، كما تفعل الأنظمة العسكرية القمعية المعتادة على الإفلات من المحاسبة.
وعليه، فإن العقوبات الأخيرة لم تكن مبنية على شبهات أو تكهنات، بل على سلسلة من التحقيقات التي أفضت إلى أدلة، وبيِّنات، وقرائن دامغة على استخدام الجيش والميليشيات والكتائب الإسلامية المتحالفة معه، بقيادة البرهان، لأسلحة محرّمة دوليًّا. الأمر الذي أعاد السودان إلى دوّامة العقوبات والحصار السياسي والاقتصادي، بعد أن نجحت حكومة رئيس الوزراء الانتقالي عبد الله حمدوك، الذي انقلب عليه تحالف البرهان/الكيزان، في رفع تلك العقوبات وإعادة دمج البلاد في المجتمعين الدولي والإقليمي.
لكن إعلان البرهان، ووراءه جماعة الإخوان المسلمين، الحرب على الشعب السوداني في 15 أبريل 2023، أعاد البلاد إلى مربع العزلة والتحدي الأهوج للمجتمع الدولي، تمامًا كما حدث في السنوات الأولى لانقلاب الكيزان على الديمقراطية عام 1989، حيث سادت الفوضى والتصعيد والتهديدات الفارغة، وما أشبه الليلة بالبارحة.
لا أرى جدوى في مناقشة سرديات إعلام الكيزان بشأن دوافع العقوبات الأخيرة، إذ لا تستحق أن تُشغل بها أذهان القراء الكرام. ما يهمّ الآن هو أن العقوبات مرشّحة للتصعيد، وسيُطوَّق السودان بحصار سياسي واقتصادي ودبلوماسي أوسع، ما لم تُراجع سلطة بورتسودان مسارها، وتقدّم ما يُثبت لشعبها أولًا، وللمجتمع الدولي ثانيًا، أنها بصدد إصلاح المسار.
وأول خطوة في هذا الطريق تبدأ بمفاوضات جادّة، ووقف الحرب، وفكّ الارتباط مع الحركة الإسلامية وميليشياتها، وتسليم المطلوبين للعدالة الدولية، وإعادة رموز النظام السابق إلى السجون التي فرّوا منها، والاستعداد لتأسيس جيش مهني قومي جديد يقوم على عقيدة وطنية لا أيديولوجية، وتشكيل حكومة مدنية انتقالية من قوى الثورة والأحزاب السياسية ذات الوجود الحقيقي، لا الأحزاب المصنوعة، إلى جانب خطوات أخرى تعكس إرادة سياسية حقيقية لاستعادة النظام الدستوري في البلاد.
وإلّا، فإن المستقبل سيكون أسوأ ممّا يتخيّله الجميع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة