الافتراض السائد هو أن هناك حالة عداءٍ مُستعصٍ بين روسيا والغرب، إلا أنه غير صحيح، بالدليل المادي للمصالح.
فلسفة المصالح لا تُعادي أحدا. لأنها لو فعلت فإنما تعادي نفسها. الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، ينظر إلى مصالحه أولا. وهو ما يجعل نظرته إلى روسيا بعيدة كل البعد عن أن تكون نظرة عداء أو حتى تنافس.
هذا الاستنتاج يبدو غريبا أمام حالة الحرب القائمة في أوكرانيا، وأمام العقوبات الاقتصادية، وأمام جبل الجليد الدبلوماسي الذي يفصل بين الطرفين. ولكن هذا كله لا يصمد طويلا أمام بضع حقائق لا يمكن التغافل عنها.
أولا، التنافس الأيديولوجي القديم انتهى وانقضى بسقوط الاتحاد السوفييتي ولم يبق منه إلا الأوهام. الرأسمالية التي انتصرت في روسيا هي التي أنقذتها من الانهيار التام. صحيح أن هناك نزعات سوفييتية أو قيصرية ما تزال تظهر كما لو أنها استعادة للماضي التليد، لكن ذلك يعود، في جوهره، إلى أن روسيا ما تزال تبحث عن هوية.
وبرغم ما طرأ على التحوّل الاقتصادي من اختلالات، فإنه بات تحولا لا رجعة فيه. وفي النهاية، فإن المعايير الاقتصادية الجديدة هي التي تفرض تصورها الأيديولوجي. وهذه المعايير لا يمكنها في النهاية إلا أن تأخذ بفلسفة المصالح!
ثانيا، حجم الاستثمارات الغربية في روسيا، قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، يزيد على تريليون دولار. المئات من الشركات الغربية الكبرى وصناديق التقاعد ومؤسسات الاستثمار، وضعت أموالا طائلة في روسيا. وهو ما يثبت بجلاء أن الغرب لم ينظر إلى روسيا ما بعد عام 1990 إلا بوصفها شريكا اقتصاديا وفرصة للتوسع الاقتصادي والنمو.
الشيء نفسه، فعلته روسيا، ولو بمقدار أقل، حتى بلغ مجموع أصولها الرسمية نحو 650 مليار دولار، فضلا عن مليارات أخرى نقلها كبار رجال الأعمال والمستثمرين الروس ليضعوها في أصول غربية.
ثالثا، لقد اكتشف العالم حدود القدرات العسكرية الروسية في أوكرانيا. وأوكرانيا، في المقابل، لم تحصل على أسلحة متقدمة، إلا بالتقسيط والقطّارة. البطء في إيصال المساعدات العسكرية كان له معنى. وهو أن الغرب ربما لا يريد أن يفرض على روسيا الهزيمة، إلا بمقدار ما تكتشفه هي بنفسها، وتقبل به!
رابعا، يوجد جليد دبلوماسي. ولكن لا توجد قطيعة. السفارات الروسية في كل أرجاء دول العالم الغربي ما تزال مفتوحة. وبينما ظل من الممكن تبادل طرد الدبلوماسيين على مشارف الحرب، إلا أن هذه العملية توقفت الآن. الدول الغربية لا تريد أن تقطع، ما نسميه نحن، "شعرة معاوية" مع موسكو.
خامسا، برغم كل التهديدات والدعوات لإجبار روسيا على تقديم تعويضات لأوكرانيا، فإن الأصول الروسية لم تُمس. وقد لا تؤدي التسوية السلمية للنزاع إلى السير في هذا الاتجاه أصلا. كما قد يمكن إيجاد صيغة تقدم فيها روسيا إسهامات لإعادة الإعمار، إلا أنها لن تتحمل منفردة كل التكاليف.
التصورات الأيديولوجية عن العداء بين روسيا والغرب لا تصمد أمام هذه الحقائق. حتى المنافسة نفسها ليست موضوعا ذا صلة. ما مجالات المنافسة أصلا؟ لا يوجد سباق تكنولوجي قاهر بين روسيا والغرب. كما لا توجد منافسة اقتصادية حقيقية. الصين أقرب إلى هذين العاملين من روسيا.
الشيء الوحيد البارز هو أن روسيا قوة نووية عظمى. وتملك قدرات صاروخية تنطوي على مقدار ملموس من التفوق. ولكن هذه ليست عنصرا في لعبة المنافسة. إنها ليست لعبة من الأساس. وروسيا والولايات المتحدة ما يزالان يرتبطان بمعاهدات لإخراجها من السباق. فماذا بقي من افتراضات العداء؟
نزاع البحث عن هوية في عالم روسيا الداخلي هو ما يصنع الأزمة. وليس لأن الغرب يعادي روسيا ويرغب في أن يفرض عليها الهزيمة. حتى فكرة التهديد مُبالغ فيها. القول إن عضوية أوكرانيا في الحلف الأطلسي تشكل تهديدا لا تصمد أمام حقيقة أن الأطلسي موجود أصلا على الحدود مع روسيا جنوبا، من تركيا، وموجود على حدودها شرقا، من دول البلطيق، وها هي فنلندا والسويد تطلبان عضوية الأطلسي دون أن يشكل الأمر معضلة استراتيجية بالنسبة لموسكو. فلماذا أوكرانيا بالذات؟ انظر في معضلة الهوية لتعرف لماذا!
الباحثون عن تصوّر وجودي يحققون انتصارا عظيما عندما يعثرون على السبيل الصحيح، ويهزمون أنفسهم بأنفسهم عندما يخطئون السبيل. لا حاجة لأي طرف آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة