مع تسارع التقدم التكنولوجى خلال القرنين الماضيين، كان من الطبيعى أن يتوقع الناس زيادة مستمرة فى أوقات الفراغ
مع تسارع التقدم التكنولوجى خلال القرنين الماضيين، كان من الطبيعى أن يتوقع الناس زيادة مستمرة فى أوقات الفراغ، فإذا كان ما يحتاج صنعه إلى أربعة أو خمسة أشخاص أصبح من الممكن أن يصنعه شخص واحد، وما يحتاج إلى ثمانى ساعات عمل أصبح يمكن لانتاجه نصف أو ربع هذا القدر من العمل، فالنتيجة الطبيعية أن تزداد ساعات الفراغ. والمتوقع مع زيادة ساعات الفراغ أن يقل الحرص على الوقت ويتساهل الناس فى إنفاقه بل وتضييعه. ولكن يبدو أن الذى حدث هو العكس بالضبط. لقد حدث تقدم سريع فى التكنولوجيا المستخدمة فى إنتاج مختلف السلع والخدمات، وزاد بلا شك ما يمكن أن يتاح للناس من وقت الفراغ، ولكن الناس يبدون اليوم أكثر حرصا على الوقت مما كانوا، وأقل صبرا على من يبدده، كما يبدون بوجه عام أكثر عجلة مما كانوا، وأضيق صدرا إزاء أى عائق يضطرهم إلى الانتظار أو تأجيل الحصول على ما يطلبون.
هذا التغيير تؤكده المقارنة بين نمط الحياة فى صبانا، وتصرفات آبائنا وأمهاتنا (ناهيك عبر أجدادنا) وردود أفعالهم إزاء أحداث الحياة وبين نمط حياتنا اليوم.
قد يمكن تفسير ذلك بازدياد فرص التمتع بالحياة. قارن مثلا بين أساليب الترفيه التى كانت متاحة لآبائنا وأمهاتنا، وبينها الآن، سواء تعلق الأمر بأجهزة التليفزيون والفيديو ومشتقاتها، أو ما يمكن نقله الآن عن طريق التليفون المحمول فى مختلف صوره، أو ما يمكن الحصول عليه الآن من كتب ودوريات بمجرد الطلب.. إلخ، مما قد يجعل الحرص على الوقت أكثر مما كان. أضف إلى ذلك الحاح منتجى السلع والخدمات الجديدة وبائعيها على ضرورة اقتنائها.
إنى أتذكر جيدا كيف كانت الاعلانات والدعاية التجارية محدودة للغاية فى صباي، ونستطيع أن نكتشف ذلك من إلقاء نظرة على صحيفة قديمة تعود إلى نحو مائة عام مضت، أو بالمقارنة بين كمية إعلانات التليفزيون عند بداية ظهوره وبينها الآن. كما أذكر زيارة لى لبلد اشتراكى فى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وكيف كانت الشوارع والحوائط شبه خالية من أى نوع من أنواع الدعاية.
قد يبدو هذا تفسيرا مقنعا ليس فقط لسلوك شعوب الدول المسماة بالمتقدمة أو الغنية، أى التى تتمتع بوفرة من الموارد والدخل بالمقارنة بغيرها، ولكنه يصلح أيضا لتفسير حالة غالبية شعوب الدول الفقيرة، حيث زادت أيضا أساليب المتع المتاحة والدعاية لها. ولكن دعونا لا نبالغ فى إلقاء المسئولية على أصحاب المصالح التجارية عما نفقده من أوقات الفراغ، إذ يبدو أننا نتحمل جزءا كبيرا من هذه المسئولية بسبب يتعلق بالطبيعة الإنسانية، وهو أننا فى الحقيقة نبالغ بشدة فى قيمة وقت الفراغ فى نظرنا، وأن قدرتنا على التعامل مع وقت الفراغ أقل بكثير من الحقيقة.
إن مفهوم «وقت الفراغ» يتضمن الشعور بحرية الاختيار بين عدة بدائل، ولكن هناك من تصرفات الناس ما يدل على أنهم كثيرا ما يجدون صعوبة فى ممارسة هذه الحرية، نحن كثيرا ما نتغنى بالحرية وضرورتها، بل وبأنها أغلى شيء فى الحياة، فهل نحن واثقون من أن الإنسان يعرف كيف يمارس الحرية متى منحت له؟
هناك أولا صعوبات الاختيار بين البدائل الناتجة عن مجرد الجهل بطبيعة هذه البدائل. لقد شبه بعض الكتاب المستهلك وهو يحاول اختيار أحد البدائل المتاحة له فى الأسواق، بشخص ذهب إلى مطعم صينى وقدمت له فيه قائمة الطعام مكتوبة باللغة الصينية دون ترجمة، فلم يكن أمامه إلا الإشارة بأصبعه إلى أحد الأطباق دون أن يدرى بالضبط ما الذى سوف يحصل عليه. ولكننا فى الأسواق التجارية الحديثة التى يخدم فيها المستهلك نفسه، نجد أنفسنا فى موقف مشابه، إذ يبلغ عدد الأصناف المختلفة من كل سلعة رقما لا يستطيع معه المستهلك أن يقارن بكفاءة بين المتعة التى يمكن أن يحصل عليها من كل صنف، وتلك التى تقدمها الأصناف الأخري، وكذلك بين فروق الأسعار بين كل هذه الأصناف. هنا كثيرا ما ينتهى الجهل باختيار عشوائى لا علاقة له بالتفضيل الحقيقى لصنف على آخر.
هناك أيضا، بالإضافة إلى الجهل، مجرد الكسل، إذ كثيرا ما يفضل المستهلك أن يترك العادة تحدد له اختياره تجنبا لبذل الجهد اللازم للمقارنة بين البدائل، أو أن يلجأ إلى التقليد، فيختار ما اختاره آخرون بافتراض أن ما قام به الآخرون من جهة قد يعفيه من أن يبذل الجهد اللازم للاختيار.
ولكن أظن أن هناك سببا أهم من ذلك يدفع إلى التضحية بحرية الاختيار، وهو الهروب من المسئولية التى لابد أن يتحملها المرء إذا مارس بالفعل هذه الحرية. هذا الشعور بالمسئولية قد يكون أكبر عبئا مما نتصور، ومن ثم يجلب لنا التهرب منه راحة أكبر مما نظن. فلنتذكر شعور الأطفال الصغار وقد استسلموا تماما لما تخيره أبوهم أو أمهم من قرارات تخصهم أكثر مما تخصهما، بينما يعانى الأب أو الأم القلق مما إذا كانا قد اتخذا القرار السليم، سواء فى اختيار مكان الترفيه أو نوع المدرسة التى يرسل اليها الأطفال. إن مواطنى الدولة التى يحكمها دكتاتور قد يشعرون براحة مماثلة، خاصة إذا كان الدكتاتور قد أثبت فى فترة تاريخية سابقة، وطنيته وكفاءته فى التخلص من حكم أجنبي، ولكن الحقيقة أن التحلى الارادى عن حرية الاختيار هو أكثر شيوعا مما نظن ولسبب أكثر اتصالا بالطبيعة الانسانية. ألا ينطوى الزواج على مثل هذا التخلى عن جزء كبير من حرية التصرف، إذ ألا ينفرد أحد الزوجين باتخاذ بعض القرارات المهمة فيسايره الآخر، من باب الحب تارة، أو الكسل تارة أخري؟ ألا يستسلم الجالس أمام التليفزيون، بعد يوم عمل شاق (أو حتى بدون ذلك) لمن يختار له ما يشاهده من برامج ومسلسلات، أو لمن يلقى به من اعلان سخيف إلى إعلان آخر أسخف؟
إنى أتذكر أصدقاء الصبا ومطلع الشباب عندما كان يثور التساؤل أحيانا عن كيفية قضاء وقت من أوقات الفراغ، حيث كان كثيرون منهم يجدون صعوبة فى تحديد ما يريدون صنعه، وقلة عدد من كان يدرك ما يريد بوضوح وعزيمة كاملة، ومن ثم نجد النوع الأول ينتهى عادة إلى أن يفعل ما يريده الآخرون.
نحن فيما يظهر نبالغ فى الأهمية التى نعلقها على الحصول على أوقات فراغ أطول، إذ إن الحقيقة أن تقديرنا للحرية أقل بكثير مما نزعم.
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة