ترامب هو الذي كتب خطابه بنفسه، مما يعني أنه تعبير صادق ومباشر عن رؤيته التي جاءت مطابقة تماما لما طرحه في حملته الانتخابية
كان عجيبا حقا ذلك الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب في حفل تنصيبه أمس الأول، فقد جرت العادة علي أن يكون خطاب التنصيب للرئيس المنتخب خطابا تصالحيا يضمد فيه جراح المعركة الانتخابية ويسعي من خلاله لتوحيد الصفوف بين مؤيديه ومؤيدى غريمه، والتطلع معا الي المستقبل المشترك، أما خطاب تنصيب ترامب فقد بدا علي العكس من ذلك خطابا متوعدا للمؤسسات الحاكمة التي بني حملته الانتخابية علي مهاجمتها واتهامها بخدمة مصالحها الخاصة علي حساب مصالح الشعب الأمريكي، وهو ما واصل ترامب ترديده في خطابه الأول كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية.
إن خطاب التنصيب هو المناسبة الأولي التي يظهر فيها الرئيس المنتخب باعتباره رجل دولة يزن الأمور بدقة ويحاول إظهار ما يتمتع به من حكمة يتطلبها منصبه الجديد، ومن هنا فعادة ما يختلف ذلك الخطاب الرصين عن الخطابات النارية التي قد يلجأ اليها المرشح الرئاسي في أثناء حملته الانتخابية، لكن الحقيقة أن خطاب ترامب جاء امتدادا طبيعيا لخطاباته الانتخابية، بنفس الانفعالات المتأججة التي ميزت خطاباته السابقة، حتي ليخيل إليك أنه يخطب في تجمع انتخابي وليس من قلب مقر الحكم بمبني الكابيتول في واشنطن أمام الآلاف من الجماهير التي جاءت من كل صوب.
ومن المعروف أن ترامب هو الذي كتب خطابه هذا بنفسه، مما يعني أن الخطاب تعبير صادق ومباشر عن رؤية الرئيس الجديد والتي جاءت مطابقة تماما لما طرحه في حملته الانتخابية، وربما كان هذا أهم ما كشفه الخطاب، ذلك أن السؤال الذي كان مطروحا منذ إعلان فوز ترامب في الانتخابات هو: متي سيتغير ترامب؟ بمعني أن الأفكار التي طرحها في حملته الانتخابية والتي بدت غير تقليدية لغرابتها، لا يمكن أن يكون جادا فيها، وإنما كانت وسيلة للفت نظر الناخب الأمريكي بالمبالغة من أجل الدواعي الانتخابية، ومن هنا فقد كان الكثيرون يتوقعون من ترامب عند تولي المسئولية أن يعدل عن الكثير مما طرحه في أثناء الانتخابات، لكن الخطاب جاء ليؤكد أن ترامب لن يتغير وأن سياسته في البيت الأبيض ستكون هي السياسة التي وعد بها الناخبين في أثناء حملته الانتخابية.
وقد أدلي عدد من مساعدي ترامب ومستشاريه بتصريحات قالوا فيها إن الرئيس قد أعد عدته خلال الفترة السابقة علي تنصيبه حتي يشرع فور حلف اليمين في اتخاذ القرارات الجذرية التي وعد بها، وهذا يعني أن حسابه لن يكون بعد مرور المائة يوم الأولي في البيت الأبيض كما جرت العادة، وإنما «منذ اليوم الأول» From day one وهي الجملة التي كانت الأكثر ترديدا في خطاباته الانتخابية.
وقد جعل كل ذلك من خطاب ترامب خطابا متفردا بين خطابات التنصيب الأمريكية، كما أنه من أكثر الخطب شعبوية، ومن الملاحظ أن الغرب كثيرا ما كان يعبر عن استهجانه للخطابات الجماهيرية لزعمائنا متهما إياهم بالشعبوية التي ادعوا أنها تعبر عن التخلف السياسي للمجتمعات في عالمنا الثالث، وقد أصبح البعض عندنا يردد وراءهم كالببغاوات مثل هذا الاستهجان الذي يثبت التاريخ الآن أنه كان في غير محله، فلا شك في أن الخطاب الشعبوي لترامب كان أحد الأسباب الرئيسية التي أوصلته الي البيت الأبيض، لأن ذلك هو ما يلهب حماس الجماهير أينما كانوا.
ومن الملاحظ أيضا أن تمسك ترامب في خطاب التنصيب بما أعلنه خلال حملته الانتخابية من اتباع الدولة لسياسة الحماية الوطنية للصناعات المحلية، كان هو الآخر يلقي استهجانا كلما طبقناه في مجتمعاتنا النامية حماية لصناعاتها الوليدة، بينما تدعو مجتمعات الاقتصاد الحر إلي رفع يد الدولة عن الاقتصاد وعدم التدخل في اقتصاديات السوق، وهو ما يعتبر مبدأ أساسيا من المبادئ التي تقوم عليها أيديولوجية الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه ترامب.
علي أن هناك الكثير من التناقضات في مواقف ترامب، وقد كانت واضحة منذ بداية حملته الانتخابية، وكان البعض يتصور أن ترامب سيحل هذا التناقض عند توليه السلطة بأن يغض الطرف عن بعض هذا المواقف التي تبدو عسيرة التحقيق، لكن خطاب التنصيب الذي بدا فيه متمسكا بما طرحه في حملته الانتخابية، يؤكد أن هذه التناقضات ستبقي داخل البيت الأبيض.
ومن أبرز التناقضات التي تواجه ترامب اتباعه لسياسة اقتصادية وعد بها بالمخالفة لما يؤمن به حزبه الجمهوري، ومنها سياسة الحماية الاقتصادية سالفة الذكر.
التناقض الثاني هو توعده لرجال المال والأعمال الذين اتهمهم صراحة في خطابه بأنهم يثرون علي حساب «المواطن المنسى» The forgotten men and women بينما هو نفسه ينتمي الي هذه الفئة من رجال المال، وقد حقق مثلهم ثراء بالغا، فهل كان هذا علي حساب المنسيين من الرجال والنساء الأمريكيين؟
أما التناقض الأخطر فهو مناصبته العداء للمؤسسة الحاكمة في واشنطن والتي قال أن يوم تنصيبه هو بداية نزع السلطة عنها ومنحها للشعب، وقد قصد بذلك البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية والمؤسسات الداعمة لها وهي المؤسسات المالية والصحافة والإعلام، لكنه في نفس الوقت أعلن ولاءه لاسرائيل وحمايته لمصالحها، ووعد اسرائيل بما لم يقدم عليه أي رئيس أمريكي سابق، فكيف له أن يتصدي للمؤسسات الأمريكية الحاكمة وفي القلب منها جميعا اللوبي الإسرائيلي الذي يعلن ترامب ولاءه له؟
لقد شهدت الحملة الانتخابية للرئيس ترامب ما لم تشهده الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في السابق من خطاب لا يكتفي بمهاجمة المرشح المنافس فقط وانما يتوعد المؤسسات الحاكمة ذاتها والتي ضجر منها الشعب الأمريكي، وقد جاء خطاب تنصيب ترامب هو الآخر مغايرا تماما للخطابات السابقة، لكن المؤكد الآن هو أن رئاسته للولايات المتحدة ستكون فاتحة لحقبة جديدة، ليس في التاريخ الأمريكي وحده، وإنما في تاريخ العالم كله.
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة