العقيدة والإيمان فهما من اختيارات الإنسان يحاسبه الخالق العظيم في يوم يجمع فيه الخلق أجمعين
من أهم الأصول الفكرية لخطاب التطرف الديني العنيف إنكار حرية الاختيار للإنسان، واعتبار أن الإيمان بدينهم، أياً كان دينهم هو الأصل في الوجود البشري، وأن من لا يؤمن لا يستحق الحياة، وبذلك يكون جوهر الإنسان عندهم أنه آلة لا إرادة لها ولا اختيار، ما على هذا الإنسان الذي هو مجرد آلة إلا أن يتبعهم ويسير خلفهم، وإلا كان عاصياً أو كافراً أو مشركاً، وجوده في الكون سلبي، ولذلك لهم الحق في نزع حياته بسبب عدم إيمانه بما يؤمنون به.
وعلى الرغم من أن هذه القاعدة يتقاسمها كل المتطرفين من جميع الأديان والمِلل والمذاهب؛ إلا أننا سوف نقصر الحديث في هذا السياق على المسلمين الذين نسعى بكل طاقة الى إصلاح واقعهم وتغيير حالهم، وتخليصهم من حالة العماء التي يسيطر على فصيل من شبابهم؛ دفعهم إلى التحول من كونهم طاقات بناء وتطور وتقدم، إلى معاول هدم وتدمير وخراب.
وإذا نظرنا في الأصل الفكري لخطاب التطرف الديني العنيف الذي ينكر حرية الاختيار للإنسان، ويجعل الالتزام بالدين والإيمان به عملاً إكراهياً واقعاً على الإنسان من خارجه، من قوة تدعي أنها تملك الدين، أو تحافظ على التدين، أو تحرس العقيدة، أو تدافع عنها بإكراه الناس عليها؛ نجد أنه ينفي أصل الدين ذاته؛ كاختيار إنساني يحاسب عليه الإنسان بالثواب والعقاب، وأنه انعكاس لمسؤولية الإنسان عن أفعاله، وأنه تعبير عن الأمانة التي حملها الله للإنسان؛ بعد أن أبت جميع المخلوقات على حملها ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾(72 الأحزاب)، تلك الأمانة التي قال عنها بعض العلماء أنها العقل، وقال بعضهم أنها الإرادة، وقال فريق ثالث إنها حرية الاختيار.
كذلك يطعن هذا الأصل الفكري لخطاب التطرف الديني العنيف في صفة العدل عند الإله الخالق، لأن العدل الإلهي يستلزم أن يكون الإنسان حراً في الاختيار؛ حتى يكون مسؤولاً عن أفعاله بالثواب والعقاب، فحرية الاختيار التي يتمتع بها الإنسان هي المقدمة الأولى والسبب الأساسي لوجود اليوم الآخر، والحساب والثواب والعقاب، ومن ثم الجنة ومنازلها، والنار ودركاتها أو درجاتها، وإن لم يكن الإنسان متمتعاً بحرية الاختيار مسؤولاً عن أفعاله، لن يكون من العدل حسابه على تلك الأفعال، ومن ثم لن يكون من العدل أن تكون هناك جنة ونار… والعدل الإلهي هو العدل المطلق، لذلك أعطى للإنسان حرية الاختيار المطلقة فقال سبحانه وتعالى ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ (سورة الكهف الآية 29)، هذه المشيئة الإنسانية هي القاعدة الأساسية للعدل الإلهي في الآخرة، وبدون وجودها ينتفي وجود الآخرة أو وجود العدل، وحاشى لله سبحانه وتعالى الحق المطلق والعدل المطلق أن يكون في دينه ما يخالف عدله.
ترسيخ هذه الحقيقة يحتاج إلى جهود من العلماء والمراجع الفقهية والمؤسسات الدينية الكبرى والمجامع العلمية والدعاة والوعاظ والإعلام، وقبل ذلك التعليم في المدارس والجامعات، لأن هذه الحقيقة سوف تفكك خطاب التطرف الديني العنيف وما يرتبه من كراهية، وسوف تقود إلى وجود مسلمين يؤمنون بالتعدد والتنوع.
حرية الاختيار أو الإرادة البشرية هي الأساس الذي يبرر نزول الأديان، وإرسال الرسل، وبدون هذه الإرادة والحرية يكون البشر مثل باقي المخلوقات تحكمها غرائزها ولا حساب عليها، ولكن وجود هذه الحرية التي حملها الإنسان؛ ولذلك كان خليفة الله في أرضه، وفيه نفخة أو نفحة من روح الله، ومكلف بتعمير الأرض، وتحقيق العدل، هي التي جعلته أعظم المخلوقات، وجعلت الملائكة تسجد له، لأنه سيعبد الله اختيارا وإرادةً، وليس بحكم الطبع والفطرة مثل الملائكة، فالإنسان أعظم من الملاك، لأنه سيعرف ربه بإرادته واختياره، وسيترك ما تشتهيه نفسه حبا في خالقه وطاعة له، وليس انسجاما مع فطرته مثل الحيوان.
حقيقة أن حرية الاختيار قبل الدين والتدين والإيمان، لأن الإنسان يختار الدين والتدين بإرادته، ويلتزم به بإرادته، لذلك لا يحاسب الإسلام المسلم إلا إذا اكتملت عنده الإرادة، وتحقق فيه الرشد، وأصبح قادراً على الاختيار عند اكتمال عقله بالوصول إلى سن الرشد، عند هذا السن يصبح محاسباً على أفعاله في القانون الدنيوي، وفي الحساب الأخروي، وإذا فقد عقله بالجنون أو العته أو الشيخوخة، أو فقد إرادته بالإكراه والإجبار والسجن والأسر، أو بفعل العقار أو المخدر يصبح غير محاسب على أفعاله أمام القانون الدنيوي، وفي الحساب الأخروي، لذلك جعل بعض الفقهاء حفظ العقل مقدماً على حفظ الدين في المذهب الشافعي، لأن حفظ العقل هو الأساس، لأنه بدون عقل لا وجود للدين في حياة الإنسان.
وقد رفع العلماء المسلمون الأوائل العقل البشري المسؤول عن حرية الاختيار وحرية الإرادة إلى مرتبة مساوية للدين والوحي الإلهي، لأن العقل عندهم مخلوق إلهي، هو من روح الله التي نفخها في آدم عليه السلام، وهو من هداية الله للإنسان قبل الأديان، ولذلك ظهر حوار وجدل طويل بين أهل العلم الراسخ حول “التحسين والتقبيح العقلي والديني”، وكان جوهر الحوار: هل يستطيع العقل تحديد الحسن من القبيح في الأفعال والأشياء والتصرفات البشرية بدون الوحي الإلهي المتمثل في الدين؟، أم لابد من الدين حتى يستطيع الإنسان تحديد الحسن من القبيح، وقد اختار بعضهم أن العقل البشري قادر على الوصول إلى تمييز الحسن من القبيح؟، ولكن اكتمال هذا التمييز يحتاج إلى الوحي، فالوحي يكمل قدرات وطاقات وإمكانيات العقل البشري، إنه نقاش طويل يمكن الرجوع إليه في كتب علم الكلام.
وانطلاقاً من هذه الرؤية العميقة للعقل البشري كتب الفيلسوف والعالم والطبيب الأندلسي ابن طفيل(1100م -1185م ) كتابه الرائع "حي بن يقظان" وهو يحكي قصة طفل رضيع كان في سفينة مع والديه فغرقت السفينة، ومات كل من كان فيها إلا الطفل الذي ألقت به الأمواج على الشاطئ، فوجدته قردة وتبنته وأرضعته، حتى كبر وشب، ثم ماتت القردة، وهو يظن أنها أمه، لذلك حزن عليها حزناً شديداً، ولعدم معرفته بحياة البشر، أو بأي شيء غير حياة الغابة، شق صدرها لينقذها، ومن هنا بدأ البحث عن سر الحياة والموت حتى وصل إلى اكتشاف وجود الله الخالق المحيي المميت، وخلاصة القصة أن الإنسان بعقله قادر على اكتشاف وجود الله بدون وحي أو رسل.
إن عقل الإنسان وإرادته، ومن ثم حرية اختياره هم الأساس قبل الإيمان بالدين وقبل التدين، لأن العقل هو الذي يميز الدين الصحيح عن السحر والشعوذة والشعر والأساطير والأوهام، لذلك لابد من احترام إرادة الإنسان، وعدم الاعتداء عليها تحت أي حجة، فهو حر في الإيمان وعدم الإيمان، ولا سلطان لأحد عليه إلا لخالقه الذي سيحاسبه يوم القيامة، وليس في هذه الحياة الدنيا.
ترسيخ هذه الحقيقة يحتاج إلى جهود من العلماء والمراجع الفقهية والمؤسسات الدينية الكبرى والمجامع العلمية والدعاة والوعاظ والإعلام، وقبل ذلك التعليم في المدارس والجامعات، لأن هذه الحقيقة سوف تفكّك خطاب التطرف الديني العنيف وما يرتبه من كراهية، وسوف تقود إلى وجود مسلمين يؤمنون بالتعدد والتنوع الناتج عن حرية الإنسان وإرادته واختياره، ولن يفكر أحد بعد ترسيخ هذه الحقيقة في العقول والقلوب في أنه وصي علي الناس، وأنه مكلف بهم، وأنه الوكيل الحصري عن الله سبحانه في تقرير الإيمان والكفر، ومحاسبة من كفر أو رفض ما يؤمن هو به.
رسوخ هذه الحقيقة سيفتح الأفق أمام مجتمع يحترم العقل، ويحترم الإرادة، ويحترم حرية الاختيار في كل شيء، ولا يحاكم الناس على قناعاتهم واختياراتهم، ويكون القانون هو الحكم بين أفراد المجتمع فيما يقومون به من أعمال، أما العقيدة والإيمان فهما من اختيارات الإنسان يحاسبه الخالق العظيم في يوم يجمع فيه الخلق أجمعين لحساب ختامي بعده الجنة والنار…أما قبل ذلك فكل إنسان حر في الإيمان أو عدم الإيمان، ولا سلطان لأحد عليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة