ترى كم عدد الأطفال الذين ضيّعوا الرسالة في الطريق؟ كم منهم خذل شبابه وكهولته؟ ما هو عدد الأطفال، في هذا العالم، الذين تعلموا جيداً
الأسبوع الماضي عرضت قناة «فرانس 24» فيلماً وثائقياً للمبدع الفرنسي، «ريان أرتوس بيرت ران»، كان بعنوان «الإنسان». استغرق إعداد الفيلم سنتين، حاول ريان في البداية البحث عن الجمال في الطبيعة، وزار أجمل الأماكن في العالم، لكن هذا التوجه لم يشبع فضوله، ولم يجب عن سؤاله الوجودي «ما معنى الحياة»، فاتجه للبشر. وكان جواب الغالبية أن معنى الحياة هو «سراب السعادة»، ويلخص الناس هذا السراب، بلحظات هاربة برفقة الأحباء، الذين لا ندرك قيمتهم إلا إذا تقدم بنا العمر وفقدناهم، أي أن سعادة الإنسان تنبع من الذين حوله، الأم والأب والزوجة والأبناء والأخ والأخت والصديق والجار، وإنسان تقودك المصادفة إلى التعرف إليه، فيساهم في جلب السعادة لك، وإن شئت، يعلّمك كيف تكون سعيداً، يلهمك فن السعادة.
لكن الإجابة المدهشة عن سؤال الفيلم، التي اعترف المخرج بأنها الأجمل، جاءت على لسان رجل اسمه «ارقوس»، وهو أجاب عن السؤال بحكمة بليغة. قال: «كنت على الدوام أردد عبارة سمعتها من صديق وأنا صغير. كان يقول لي، الحياة تشبه إيصال رسالة من الطفل الذي كنته إلى العجوز الذي ستصيره، ويجب أن نعمل ما في وسعنا كي لا تضيع الرسالة في الطريق».
ترى كم عدد الأطفال الذين ضيّعوا الرسالة في الطريق؟ كم منهم خذل شبابه وكهولته؟ ما هو عدد الأطفال، في هذا العالم، الذين تعلموا جيداً، وحظوا برعاية أسرية حانية، وعاشوا حياةً وادعة وجميلة، والتزموا إيصال الرسالة بنجاح إلى مراحل أعمارهم المتعددة؟ ما هي الأسباب التي تمنع الطفل من توصيل الرسالة إلى نفسه؟ لماذا ينجح طفل فقير، يعيش في أسرة مستهترة، في نقل الرسالة، ويفشل آخر تربى في أسرة جادة وغنية ومتعلمة، وربما مترفة؟ لماذا ينجح طفل مأسور بظروفه وحياته الموجعة في توصيل طفولته إلى كهولته، ويفشل آخر طليق في اختياراته وحياته؟ لماذا عجز خبراء التربية، فضلاً عن الأمهات والآباء، عن إدراك سر خذلان الطفل لنفسه في منتصف الطريق؟
«الحياة تشبه رسالة تنقلها كطفل إلى نفسك حين تصبح كهلاً أو عجوزاً»، في رأي «ارقوس»، وهذه العبارة الفلسفية، ربما خلقت تحدياً للتربويين، فضلاً عن الآباء والأمهات، والمجتمع برمته.
لكن ألا يحق لنا أن نسأل عن مضمون الرسالة التي كلِف الطفل حملها لنفسه حين يكبر؟ ما هي ظروف تكوينها، وما الثقافة والقيم التي تدخلت في تشكيل مضمونها، وما الأسباب التي تجعلها شيئاً مثالياً على هذا الطفل أن يلتزمه، ويوصله لنفسه حين يكبر؟ هل يمكن أن نحاكم موصل الرسالة على فقدانها على رغم أنه طفل يحمل رسالة من دون وعي منه؟ هل يجوز أن نلومه على ضياعها في طريق يتغير، على الدوام، ويتدخل في تشكيل وعيه وخياراته؟
إذا كانت هذه الأسئلة مشروعة ومنطقية، في نقد عبارة «ارقوس»، علينا معاودة صوغها، فنقول إن الحياة في مجتمعاتنا العربية، تشبه إيصال رسالة يفرضها المجتمع أو الأسرة على الفرد وهو طفل، ويطالبه بأن يوصلها إلى نفسه حين يصبح كهلاً، لكنه حين يكبر يجد مضمون الرسالة يتهاوى أمام عينيه، سنة بعد أخرى.
لذا يفقد البداية، يرتبك، وتضيع منه طفولته.
ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، قوله: «لا تُكرهوا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم»، والعبارة نسبت إلى الفاروق عمر بن الخطاب أيضاً، على رغم ضعف سندها إلى الاثنين، لكن معناها ينسجم مع مضمون الرسالة من الطفل الذي كنته إلى الكهل الذي ستصيره.
إشكالية فشل الطفل في إيصال الرسالة لنفسه حين يكبر في بلادنا العربية، ليست نابعة من تضييع هذا الطفل لها، بل من التحولات التي تمر بها مجتمعاتنا.
معروف عند علماء الاجتماع أن جيل التحولات يعيش حالاً من التشويش والارتباك، ولا يصنع شيئاً مهماً في النهاية، لأنه يشبه مسافر «ترانزيت». المجتمعات الناضجة والمستقرة هي التي تمنح الأمان للطفل في توصيل الرسالة إلى نفسه من دون تشويه.
لذلك أقول بأسف، أن الطفل العربي اليوم يعيش في مرحلة تحولات مفزعة، وعلينا ألا ننتظر الكثير من أطفالنا في هذه المرحلة حين يكبرون، فنحن مَن سيضيّع الرسائل التي يحملونها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة