رفضت محكمة النقض الطعن المقدم من حسني مبارك ونجليه في إدانتهماأمام محكمة جنايات القاهرة بالفساد، في القضية المعروفة بـ"القصور الرئاسية
رفضت محكمة النقض المصرية الطعن المقدم من الرئيس الأسبق حسني مبارك ونجليه في إدانتهما السابقة أمام محكمة جنايات القاهرة بالفساد، في القضية المعروفة بـ"القصور الرئاسية".
أهمية الحكم الذى ثبتَ على مبارك حكماً بالسجن 3 سنوات ليس فقط أنه صادر من المحكمة العليا، وإنما في كونه الحكم الباتّ النهائي بعد رحلة قضائية طويلة، ما يعني أن مبارك يغادر الوصف القضائي كمتهم ليصبح مداناً تماماً ومستنفذاً لكل الدرجات القضائية، ما يعني فقدانه الاعتبار، وأيضاً ضياع أمله الأخير في جنازة عسكرية كقائد سابق في القوات المسلحة المصرية، وغلق أي فرص أمام أي مستقبل سياسي محتمل لنجليه، حتى لو كان الترشح لرئاسة جمعية أهلية.
مثل هذا الحكم هو من يمكن أن تسميه "عنوان الحقيقة" كما تقول الأدبيات القضائية، لأنه نهائي لا يقبل الطعن عليه مجدداً وأمام المحكمة الأعلى، لكنه يُجدد جدلاً سياسياً متكرراً خلال العام الماضي عن محكمة النقض تحديداً، يبدأ من اتهامها بعرقلة العدالة، بسبب اضطلاعها بدورها في تدقيق أوراق المحاكمات والإشراف على توافر الضمانات الكاملة للمحاكمات العادلة ونزاهة تطبيق القانون، وتصل الاتهامات مبطنة إلى درجة اتهامها بدعم الإرهاب، بسبب أحكام لها بإلغاء إدانات بحق محسوبين على التيار الإسلامي وعلى تنظيمات متطرفة.
لم يبق أمام أنصار مبارك بعد صدمتهم من تثبيت إدانته، غير استحضار قلق عام من الإرهاب والتعريض بالمحكمة العليا، بدأ في القاعة عقب النطق بالحكم بهتافات مؤيدة لمبارك ومنددة بالحكم والمحكمة، إلى مداخلات تليفزيونية وتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي كلها تدور في صيغ مشابهة على شاكلة "مش دي المحكمة اللي ألغت حكم إعدام الإرهابي حبارة، وألغت حكم إدانة محمد بديع في أحداث مكتب الإرشاد" إلى غير ذلك من استحضار أحكام كثيرة للمحكمة خلال عام 2015 بدا أنها تصبّ في صالح متهمين من المنسوبين للإخوان، أو أشخاص متهمين بالانخراط في تنظيمات مسلحة والتورط في الاعتداء على الجنود في سيناء.
وكأنها محاولات لخلط الحق بالباطل والاستمرار في التعريض بالمحكمة العليا وتشويهها لدى الرأي العام بتبسيط دورها وكأنها محكمة مُسيسة انتقمت من مبارك بتثبيت إدانته، وتضامنت مع محمد بديع بإلغاء أحكام صادرة في حقه، وحاولت أن تنقذ حبارة من الإعدام، والمشكلة أن دعم هذا الهجوم يأتي أحياناً مستنداً لأقوال قانونيين وقضاة ثبت أنهم أصحاب هوى وغارقون في الاستقطاب السياسي وغير ملتزمين بحيدة القاضي المفترضة، وآخرهم من قبلت محكمة الاستئناف رده عن نظر قضية بسبب إفصاحه عن مواقف سياسية تجعل المتهمين غير مطمئنين لقضائه.
يستغل هؤلاء كذلك تصريحاً للرئيس السيسي كان أطلقه خلال تشييع الشهيد هشام بركات النائب العام الراحل الذي اغتالته يد الإرهاب حين دعا لـ"العدالة الناجزة" لمواجهة الإرهاب محملاً القضاة المسؤولية عن تباطؤ ردع الإرهابيين، حتى أن أحد الرياضيين من أصحاب المداخلات المتشنجة، خرج مؤازراً دعوة الرئيس على إحدى الفضائيات، متهماً "محكمة النقض" بأنها تعطل الردع وتدعم الإرهاب، حتى إنه قال بالحرف "الإرهابي حبارة المعترف بقتل الجنود، حُكم عليه بالإعدام ومحكمة النقض ألغت الحكم لأن القضاة لم يوقعوا على مسودة الحكم".
وبعد أن سرد سبب بطلان الحكم أسهب قائلاً: "طيب ما بدل ما تبطل الحكم.. ما ترجع الورق للقضاة يمضوا عليه".
هكذا ببساطة حل الرجل ما يراه مشكلة عند محكمة النقض، واقترح ببساطة أن كل ملاحظة تجدها المحكمة العليا في حكم قضائي، تتواصل "من سكات" مع قضاته لإصلاحه على الورق بدلاً من إعادة المحاكمات وإطالة أمد الردع.
ربما تكون الثقافة القانونية لدى أمثال هذا الرجل أقل من أن يفهم ويستوعب دور محكمة النقض وأهميته وقيمته بل وقدسيته في تحقيق العدل، لكن اللافت أن "قضاة كبارا" ومسئولين في مؤسسة العدالة يظهر في مواسم الهجوم تلك تضامنهم مع دعوات لإعادة النظر في صلاحيات محكمة النقض، ودعوات لتنفيذ أحكام قضايا الإرهاب بدون عرضها على محكمة النقض من الأساس. وتروج إعلامياً مسودات لمشروعات قوانين أو تعديلات في قانوني العقوبات والإجراءات، تذهب جميعها إلى تقليص بعض صلاحيات محكمة النقض، أو تعطيلها في قضايا بعينها.
الطبيعي وسط هذا الجدل أن تصل للشارع الغاضب من هذه الجرائم رسالة بأن محكمة النقض هي السبب في الإرهاب، أو تدعمه وتحميه، وتحول بين عناصره وبين العقاب الرادع، وكأن قضاة المحكمة العليا "درة تاج النظام القضائي المصري" طابور خامس.
طبيعة عمل محكمة النقض يمكن تبسيطها في أنها جهاز قضائي لضمان "جودة الأحكام القضائية"، ومهمتها الأساسية أن تحاكم الأحكام، لا الأشخاص، وأن تنظر في الإجراءات والأوراق لتتيقن من التزام المحكمة بصحيح القانون في كل كبيرة وصغيرة فيه، وتوحيد المعايير القانونية التي ترتكز عليها المحاكم، وهي ضمانة كبرى لأي متهم حتى لا يُنتقص حقه في محاكمة عادلة حقيقية، ولا يُهدر حق من حقوقه ولا حقوق دفاعه، ليكون الحكم النهائي المؤيد بعد النقض هو عنوان الحقيقة بحق.
لكن المتشنجين سياسياً يرون المشكلة في محكمة تمارس اختصاصها، وليس في قضاة الجنايات الذين يتركون وراءهم ثغرات في الإجراءات والتسبيب والاستدلال ما يكفي لإبطال أحكامهم، حتى عندما ينسى قضاة التوقيع على مسودة حكمهم، تصبح المشكلة في محكمة النقض، وكأنهم يريدون أحكاماً لا يراقبها أحد، حتى لو كانوا شيوخ القضاة الأكبر مقاماً ومنزلة وخبرة واختصاصاً، فيفتحون الباب للاستسهال والخطأ والتغول على صحيح القانون.
ولأنهم يدركون ذلك تحديداً ويعرفون أنه ما كان لمحكمة النقض أن تؤيد نهائياً حكم إدانة مبارك، سوى لأنها فحصت الأوراق وسير المحاكمات ونظرت لأوجه الطعن المقدمة من دفاع المتهم، ثم لم تجد خطأ إجرائياً أو موضوعياً واحداً يسمح بإلغاء حكم الإدانة، وفى المقابل وجدت عشرات الثغرات الإجرائية والموضوعية في قضايا أخرى لمتهمين ينتمون للإخوان، فألغت الأحكام أو أعادت المحاكمات لدوائر قضائية أخرى للنظر في تلك القضايا من جديد.
والمحكمة وهي تفعل ذلك تحاكم الأوراق وأحكام المحاكم الأخرى المطعون عليها، ولا تنظر للأشخاص وهوياتهم السياسية، فهي ذات المحكمة التي نقضت حكم الجنايات الأول بمعاقبة مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي بالمؤبد، وأعادت القضية لدائرة أخرى حكمت بالبراءة، وهي ذات المحكمة التي ألغت في ذات يوم إدانتها لمبارك في قضية الفساد، حكماً ببراءة خمسة أعضاء من الإخوان كانت محكمة جنايات طنطا قد برأتهم من اتهام استعراض القوة في أحداث جامعة الأزهر.
محكمة النقض لا تصنع الإرهاب ولا تدعمه، وليست المسؤولة عن تقصير هنا وهناك يسمح بنفاذ العمليات الإرهابية، ولا عن أوراق أحكام تأتيها مشوبة بالبطلان، ولا تترصد بمتهم.
هي "درة التاج" وضمانة للعدالة بمعناها الحقيقي الأعمى، وكل تغول عليها هو تغول على العدالة، وإهدار لأهم ضمانات العدل التي حصل عليها المجتمع المصري منذ إنشائها في ثلاثينيات القرن الماضي قبل 84 عاماً، لم تتوقف خلالها محاولات نزع استقلالها أو تسيسها والهجوم عليها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة