تحل بعد نحو أسبوعين الذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير. خمس سنوات مضت ولا تزال الدولة حائرة أمام تلك الثورة.
تحل بعد نحو أسبوعين الذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير. خمس سنوات مضت ولا تزال الدولة حائرة أمام تلك الثورة. دولة مبارك حارت كيف توقفها.
ودولة الإخوان حارت كيف تخطفها. ودولة 30 يونيو تحار في إقناع المصريين بأنها كانت تتمة لثورة يناير.
الدولة والثورة، سواء في مصر أو أي مكان آخر في العالم، علاقتهما دائما معقدة ومحيرة.
فأي دولة لا تحب أن تسقط، ولهذا لا تسلم بسهولة للثورة. وأي ثورة لا تترك الدولة أبداً على حالها. وما عاشته مصر خلال السنوات الخمس الماضية يؤكد أنه مثلما حارت الدولة مع الثورة وهل أنها خير لمصر أم شر عليها، فقد حارت الثورة أيضاً في أمر الدولة الجديدة وهل هي معها أم عليها.
خمس سنوات كشفت عن ثلاثة أنماط من حيرة الدولة المصرية مع ثورة يناير.
النمط الأول عندما حارت دولة مبارك في إيقاف خروج المصريين الزاحف عليها.
ظنت أنها حولتهم من مجتمع إلى مجرد تجمع من أفراداً مبعثرين.
لكنهم فاجأوها وحيروها لما تجرأوا عليها وعجزت عن ردهم إلى بيوتهم. وقتها اضطرت الدولة أن تضحي برأسها ليبقى الجزء الكبير الغاطس منها سليماً.
ولم تزعج هذا الجزء غير السنتين الأوليين.
سنة أدارها المجلس العسكري الذي واجه زخما دافقا فسار مع الرياح، وقبل بما تمخضت عنه الأحداث، وتعايش حتى مع أسوأ الاحتمالات التي كان لا يرجوها، وهي وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم. والسنة التالية امتدت من لحظة وصول مرسي إلى الحكم في 2012 وحتى 30 يونيو 2013. وبدا خلالها لوهلة أن ثمة دولة جديدة يخطط الإخوان لها في طريقها إلى الظهور.
لكن مشروع الدولة الإخوانية وقع في نمط آخر للحيرة من ثورة يناير.
فقد تصور الإخوان أنهم سيطروا على الثورة والدولة معا.
لكن المصريين فاجأوهم فأفقدوهم مكانهم في الاثنين معا.
قالوا لهم خنتم الثورة فثرنا عليكم غدرتم بالدولة فخرجنا نحميها منكم.
وهكذا رفض المصريون دولة مبارك التي خاصمت الثورة ودولة الإخوان التي مكرت بها.
انتقلت الدولة المصرية في ثلاث سنوات من حيرة أمام ثورة لم تعرف كيف توقفها، إلى حيرة من ثورة لم تعرف كيف تسرقها.
كان الفشل نصيب الدولتين المباركية والإخوانية. لكن منذ 30 يونيو ظهر نمط ثالث لحيرة الدولة إزاء تلك الثورة.
فمن جهة أقرت الدولة دستورياً أن ثورة 25 يناير هي الجذر الذي خرجت منه ثورة 30 يونيو.
وهو ما يعني أنها مسئولة أمام المصريين عن تحقيق مطالبها بمنع العودة إلى ممارسات دولة مبارك مرةً أخرى.
لكن الدولة من جهة أخرى لجأت لأسباب مختلفة إلى إعادة إنتاج كثير من قواعد وكوادر دولة مبارك مما شكك كثيرا من المصريين في أنها يمكن أن تنصف ثورة تنعم بشرعيتها وتتجاهل شريعتها.
تلك هي مشكلة الدولة الحالية وهي تحتفل بمرور خمسة أعوام على ثورة يناير. الثورة من ناحية مصدر معلن لقابليتها عند الناس، عليها لذلك أن تحترم مطالبها وتنحني لها طائعةً.
لكن الدولة من ناحية أخرى لا تزال متخمة بأفكار وممارسات ووجوه الماضي الذين عادوا الثورة وعادوا ليتجرأوا عليها وينتقمون من منطلقها ومطلقيها.
وستبقى الدولة في تلك الحيرة طالما أنها باللسان مع الثورة لكنها لا تنصفها بالفعل بما فيه الكفاية. ليس متوقعاً ولا مطلوبا نزول الناس من جديد إلى الشارع للتذكير بالقيم التي دعت إليها ثورة يناير لأن ذلك في ظل الأجواء الراهنة سيكون مدعاة لفوضى باهظة الثمن لن تخدم الوطن ولا المواطن.
ولتفادي ذلك اليوم وغدا يتعين على الدولة أن تمضي بجدية في إصلاح سريع ينفذ كل الأهداف الأساسية للثورة، وبالذات العدالة الاجتماعية، لأن الناس ليسوا مرتاحين. وهذا أقل ما يقال وأكثر ما يخيف.
النزول في ثورة جديدة ليس حلا. وإنما الحل أن تساعد الدولة نفسها فتوضح خياراتها. أن تنحاز إلى الثورة لأن الانحياز لعكسها أمر خطير. ليس بالكلام وإنما بأفعال لم تتخذ بعد. فلا يمكن مثلاً و 25 يناير على بعد أيام قليلة أن يجري منع أو تمييع الاحتفال اللائق بهذه الثورة العظيمة.
فهذا في حد ذاته ينتقص من شرعية دولة يونيو ويزيد الأمور لبسا على لبس. والأهم من ذلك أن تتذكر مؤسسات الدولة أن الناس تحاسبها على النتائج وليس على النيات.
وكل ما يطلبه المصريون من الدولة، أن تحقق التوازن بين منطق الثورة ومنطق الدولة وأن تجمع قوانين الثورة التي تريد كل شيء بسرعة وقوانين الدولة التي تخشى التغيير السريع والعميق وذلك من خلال إصلاح جذري سريع حتى لا يُترك الناس للغضب من جديد.
إذا كانت دولة مبارك حارت في وأد الثورة، ودولة الإخوان احتارت في سرقتها، فإن دولة 30 يونيو تحار وهي ترى الشارع السياسي يبرد في تنفيذ مطالبها عبر إصلاح عميق وسريع يحول دون عودة الأوضاع للسخونة من جديد.
حيرة الدولة لا بد أن تنتهي وشخصيتها لا بد أن تظهر.
فتمييع الموقف من ثورة عظيمة كثورة يناير ليس حلا يجب ألا يكون خياراً.
لا بد أن ينتصر التفكير في تمكين الثورة على التفكير في تسكين الثورة. صحيح أن الأمور قد تبدو حالياً قابلة للتطويع على هوى يخالف رغبات المصريين التي عبروا عنها في 25 يناير، إلا أن التعويل على ذلك ليس مضمون العواقب. فالثورات كالدول.
لها رأس ظاهر يمكن قطعه وجسد غاطس لا يعرف أحد متى يمكن أن يطفو من جديد على السطح. وهذا ما يحير الدولة إلى الآن.
فهل انفض الهواء من شراع ثورة يناير وسكنت بغير رجعة أم لا يزال فيه الكثير الكامن؟ في كل 25 يناير ومنذ أن قامت الثورة وهذا السؤال يتجدد. وسيظل ربما يتجدد لسنوات طالما استمرت حيرة الدولة. دولة 30 يونيو ما كان لها أن تقوم لولا ثورة 25 يناير. وليس أفضل لها لكي تستمر وتجذر قواعدها غير إعلان الولاء كاملا لمطالب 25 يناير. شراء الوقت مع الثورات ممكن لكنه ليس مأموناً. وذلك هو الوجه الأصعب للحيرة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة