قبل الحديث عما تغير فى الدولة المصرية، فإن ضبط المصطلحات يكون هاما. فهناك فروق واضحة بين مفاهيم «الدولة»،«السلطة»«النظام السياسى»
مع حلول الذكرى الخامسة للثورة، وباعتبار أن الأخيرة هى أول وآخر محاولة فى تاريخ مصر الحديث للتمرد على السلطة التى تأسست فى ١٩٥٢/٥٣، فإن نظرة كلية على ما جرى للفاعلين السياسيين الرئيسيين الذين ظهروا فى مشهد يناير «السلطة، الثوار، الإسلاميون» يكون مهما لاستيعاب كيف تتغير مصر وإلى أى مآل، بعيدا عن الاستنزاف والاستغراق فى التفاصيل.
فى هذه المقالة، أكتب ملاحظات تحليلية عما غيرته السنوات الخمس الأخيرة فى الدولة- السلطة فقط، أما الحركات الثورية والإصلاحية الإسلامية وغير الإسلامية فنتناولها فى مجال آخر.
قبل الحديث عما تغير فى الدولة المصرية خلال الخمس سنوات الفائتة، فإن ضبط المصطلحات يكون هاما. ففى العلوم السياسية، هناك فروق واضحة بين مفاهيم «الدولة»، «السلطة» و«النظام السياسى»، ورغم ذلك فإن هذه المقالة ستستخدم مفهومى الدولة والسلطة بنفس المعنى، باعتبار ما استقر فى الفهم العام للنخب والجماهير مع الاعتراف بعدم دقة ذلك علميا.
نحلل هنا تحديدا كيف تغيرت المؤسسات التنفيذية العليا «الرئاسة، مجلس الوزراء»، المؤسسات التنفيذية الدنيا «الجهاز الإدارى، المحليات»، التشريعية «البرلمان»، الدفاعية والأمنية والعدالة «الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والقضاء»، والمؤسسات الدعائية «الأزهر، الكنيسة، الإعلام». حيث يعتمد هذا التصنيف على شكل الدولة- السلطة وتقسيماتها المستقر منذ ١٩٥٣ وحتى الآن. ماذا تغير إذن؟
***
أولا: المؤسسات التنفيذية العليا، لعل التغيير الأبرز خلال الخمس سنوات السابقة، هو أن هذه المؤسسات العليا فقدت استقرارها بشكل كبير منذ يناير وحتى الآن، فعلى الرغم من أن الرجل القابع على رأس السلطة التنفيذية والدولة معا لم يتغير سوى ٤ مرات فى الفترة بين ١٩٥٣ و٢٠١١، أى أن متوسط حكم الرئيس كان ١٤ عاما ونصف تقريبا، فإنه فى الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٦ قد تغير المنصب أربع مرات أيضا «المجلس العسكرى، مرسى، منصور، السيسى»؛ أى أن ما احتاجته مصر لتغيير منصب الرئيس أربع مرات فى ٥٨ عاما، احتاجته فقط فى خمس سنوات لتغيير نفس العدد من الرؤساء، وهو ما يعنى أن متوسط عمر الرئيس فى مصر بعد الثورة وحتى الآن هو عاما وثلاثة أشهر تقريبا، مع الأخذ فى الاعتبار أن السيسى مستمر حتى الآن.
ولم يختلف الموقف كثيرا فيما يتعلق بمجلس الوزراء، ففى الفترة بين ١٩٥٢ و٢٠١١ (٥٩ عاما)، شهدت مصر تشكيل ٤٥ وزارة (بمعدل عام وأربعة أشهر للوزارة الواحدة فى المتوسط)، تداول عليهم ٢٠ رئيسا للوزراء (غير محتسب فيهم الفترات التى تولى رئيس الجمهورية منصب رئاسة الوزراء فى الوقت نفسه)، أى أن متوسط عمر رئيس الوزراء قبل ٢٠١١ كان ثلاث سنوات فى المتوسط، أما بعد ٢٠١١، فقد تغيرت الوزارة ثمان مرات (محتسب فيهم وزارة شفيق) بمعدل متوسط بلغ عاما ونصف تقريبا، ولكن تناوب عليهم سبعة من رؤساء الوزراء بمعدل بلغ أقل من تسعة أشهر لرئيس الوزراء، مع الأخذ فى الاعتبار أن حكومة شريف إسماعيل مازالت مستمرة. كذلك من ضمن التغيرات الكمية هو تقييد المدد المفتوحة لرئاسة الجمهورية إلى فترتين رئاسيتين بحد أقصى ٨ سنوات بحسب دستورى ٢٠١٢ و٢٠١٤. صحيح أن هناك محاولات واضحة لتعديل فترة الرئاسة وربما إعادتها إلى سابق عهدها، إلا أن ظنى أن هذا لن يحدث بسهولة، وحتى وإن حدث فستكون عواقبه غير مضمونة إذا ما قورن بسابقيه.
ثانيا: المؤسسات التنفيذية الدنيا (الجهاز الإدارى والمحليات)، وبعكس ما يوحى لقب «دنيا» فإن الجهاز الإدارى للدولة والمحليات تظل هى السلطات الأقوى نسبيا والأكثر استقرارا. فانتخابات المحليات لم تجرى إطلاقا طوال السنوات الخمس الفائتة، كما أن رؤساء الأحياء فى العموم تمتعوا بحماية واستقرار أكبر من المحافظين والوزراء، كما أن التغيرات فى الجهاز الإدارى بحكم القوانين واللوائح تظل محدودة، ومازال من المبكر أن نحكم على تأثير قانون الخدمة المدنية على جهاز الدولة الإدارى الذى اعتبره بالإضافة إلى المحليات العضلات التى سيرت أمور الدولة المصرية والتهمت الرؤساء والوزراء والمحافظين منذ ٢٠١١ وحتى الآن وخاصة فى غياب حزب الدولة الذى كان يوفر قدر من التحكم فى المحليات، ذهب هذا التحكم أدراج الرياح مع حل الحزب الوطنى وحتى اللحظة.
***
ثالثا: المؤسسات التشريعية، التغيرات التى طرأت على المؤسسة التشريعية للدولة- السلطة بعد ٢٠١١ مقارنة بما قبلها تظل أيضا جديرة بالملاحظة، فبالإضافة إلى عودة الدولة إلى الاعتماد على المجلس الواحد بعد إلغاء مجلس الشورى، فقد اعتمدت الدولة قبل ٢٠١١ على البرلمان باعتباره مؤسسة (مضمونة وحليفة) لتمرير التشريعات وحمل أختام السلطة، ولكن الفترة من ٢٠١١ وحتى الآن شهدت عدم اطمئنان الدولة للمجلس التشريعى بعد حل حزب الدولة - السلطة وظهور أحزاب أخرى منافسة ومناوئة لأجندة السلطة التنفيذية من ناحية، وبسبب غياب الكفاءات التنظيمية والسياسية المحلية التى كانت تساعد الأجهزة الأمنية فى «ترتيب» المشهد من ناحية أخرى. هذا أدى إلى تغييب السلطة التشريعية بشكل نظرى منذ ٢٠١٣ وحتى اللحظة وبشكل عملى منذ يونيو ٢٠١٢ وحتى الآن. ورغم أن المحاولات استمرت لإعادة تصنيع مجلس نيابى بقائمة أو ائتلاف داعم للدولة، إلا أن غياب الحزب المهيمن، وكثرة الصراعات، وتراجع الكفاءات السياسية داخل السلطة فى التنظيم والتفاوض والتعبئة، فضلا عن المشكلات القانونية والدستورية غير المنتهية للقوانين التى أسست المجلس، يقودنا إلى الاعتقاد أن السلطة التشريعية قد تحولت من «ختم السلطة» فى الفترة قبل ٢٠١١ إلى «شوكة» فى حلق السلطة أو ربما حتى خنجر ينذر بانفجارات وشيكة.
رابعا: المؤسسات الأمنية والدفاعية والقضاء، يمكن القول إن هذه مازالت هى المؤسسات «القوية» فى الدولة، سواء اعتبرنا القوة هنا تعبيرا عن «الاستقلال» أو عن «الحصانة» أو «السلطة المادية» أو «سلطة فرض الأمر الواقع» أو «احتكار أدوات العنف» أو «السيطرة على قنوات المعلومات والتواصل». ورغم ذلك، وبعكس الجهاز الإدارى والمحليات، فإن «قوة» المؤسسات الأمنية والدفاعية والقضائية بالمعايير السابقة تظل محل تساؤل بسبب ثلاثة تغيرات كبرى قد طرأت عليها بعد الثورة! التغير الأول أن هذه المؤسسات جميعا قد انكشفت على الرأى العام سواء بسبب حضورها الإعلامى أو السياسى أو الخدمى - الاقتصادى، وبنفس قدر التعلق بها من قبل الشعب باعتبارها ملاذا للحماية والهيبة، بنفس قدر تحملها فواتير سياسية سيكون عليها أن تسددها يوما ما فى المستقبل! كما أنه ثانيا ظهرت بعض المناوشات بينها البعض وهى مناوشات فى الغالب للسيطرة على الموارد أو على صنع القرار أو على مساحات النفوذ، وهى مناوشات كانت دائما موجودة قبل ٢٠١١ ولكنها زادت بشكل واضح الآن وخصوصا فى ظل عدم وجود طرف قوى قادر على تعريف وتحديد حدود التماس بينها بوضوح، كما أنها ثالثا، تعرضت هذه المؤسسات لتحديات أكبر من الجماعات والتيارات التى نازعتها احتكار أدوات العنف ربما بشكل تخطى مرحلة التسعينيات.
***
خامسا: المؤسسات الدعائية، معادلة الجمهورية المصرية منذ ١٩٥٢ واضحة، فالأزهر والكنيسة والإعلام هى أدوات ناعمة مؤممة بدرجات تفاوتت تاريخيا بواسطة الدولة- السلطة. استخدام هذه الأدوات كان يتم بمهارة وسلاسة أكبر من قبل السلطة قبل ٢٠١١، لكن الوضع تغير قليلا بعد الثورة، فمن ناحية فقدت مؤسسات الأزهر والكنيسة شيئا من قدسيتها أمام الكثير من أتباعها بسبب الانخراط المتكرر فى الشأن السياسى بأسلوب لم يخل من الابتذال أحيانا، وهو ما جعل هذه المؤسسات ورموزها تبدو كمؤسسات رجعية بحتة أبعد ما تكون عن شعارات التنوير والإصلاح التى ترفعها، ومن ناحية أخرى ورغم نجاح السلطة الواضح فى السيطرة على العديد من المنابر الإعلامية وخصوصا المتلفزة مع محاولات تقييد المنابر الصحفية، فسيظل التحدى الأكبر للسلطة هو الإعلام الإلكترونى الذى تطور من شكل المدونات قبل ٢٠١١ إلى شكل الصحف والبوابات الإلكترونية التى أضحت تتمتع باستقلالية أكبر وجذبت جيل جديد من الكتاب والصحافيين الذين خرجوا من عباءة السلطة المهترئة.
***
ماذا يعنى كل ذلك إذن؟
لا يجب أن نفرط فى التوقعات بشأن تغييرات جذرية فى الدولة - السلطة المصرية، رغم كل ما قيل فى التحليل السابق، من ناحية لأن التحليل السابق اعتمد جزئيا على منهج كمى انشغل بالأرقام والأخيرة يجب الحذر فى قراءة نتائجها كونها خادعة أحيانا، ومن ناحية أخرى لأن التحليل اعتمد كليا على المقارنة بين حقبتين امتدت الأولى لنحو ستة عقود، بينما لم تتجاوز الثانية خمس سنوات، ومن هنا فإن قراءة نتائج هذه المقارنة تظل محدودة بعدم تساوى الوزن التاريخى للحقبتين، بما يعنى أن الحقبة الثانية (٢٠١١ــ٢٠١٥) تظل «انتقالية» ويجب قراءة نتائجها على هذا الأساس، ومن ناحية ثالثة، لأن التطورات الإقليمية السائلة تجعل الأطراف الدولية والإقليمية تميل إلى الحفاظ على استقرار الحلفاء والوكلاء والأتباع حتى لو بثمن مرتفع! لأن الضغط للتغيير سيكون بأثمان غير معلومة، ولأنه رابعا مازالت لا توجد منابر سياسية تمهد لتنظيمات بديلة قادرة حتى اللحظة على تحدى الدولة/السلطة أو تغيرها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة