كثيرة هي الأحداث الأمنية التي شهدها العراق منذ زمن سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وسيل دماء العراقيين لم ينقطع
كثيرة هي الأحداث الأمنية التي شهدها العراق منذ زمن سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وسيل دماء العراقيين لم ينقطع، بل لا نبالغ إن قلنا بأنّ كلّ حفنة تراب من أرض الرّافدين باتت مجبولة بهذا الدّم الذي روى أرضاً يعمل البعض على بيعها شبراً شبراً لأطراف ليس لها همٌّ سوى تفتيت العراق ونهب خيراته وجعله سوقاً لتصريف منتجاتها، وأرضاً خصبة لتنفيذ أجنداتها التوسعيّة، ولا يخفى على أحد أنّ هذا الطرف هو إيران التي لا تخفي أطماعها في البلدان العربية؛ من العراق إلى سوريا فاليمن ولبنان.
اللافت في كلّ السنوات السابقة هو تعليق أغلب الحوادث الأمنيّة إنْ لم نقل جلّها على طرف ثالث لم يستطع أحد من ساسة العراق ومسؤوليه كشف هويّته حتّى هذه اللحظة، علماً بأنّ كثيراً من الأصوات العراقية في الدّاخل والخارج تشير له بالبَنان وتفضح عن تصرفاته، وتذكر غير مرّة بأنّ هذا الطرف الذي لا يجرؤ أحدٌ على تسميته يعمل في وضح النهار وينفّذ ما يحلو له من دون أنْ يقال له: لا.
في الحقيقة قد يكون الأمر مختلفاً في زمن حكومة رئيس الوزراء الحالي "مصطفى الكاظمي" الذي يتّجه وفق تعييناته الأخيرة؛ والأمنيّة منها على وجه الخصوص إلى تقليم أظافر هذا الطرف وإنْ لم يسمِّه حتّى هذه اللحظة، ولكنّ تصريحات الناطقين باسم الحكومة الإعلاميين منهم والعسكريين توحي بذلك، ولكن السؤال: إلى متى يمكن للشارع العراقي الصبّر على مسألة في غاية الأهميّة: وهي السكوت عن قتلة أبنائه من المتظاهرين السلميين؟
قد يكون الأمر مختلفاً في زمن حكومة رئيس الوزراء الحالي "مصطفى الكاظمي" الذي يتّجه وفق تعييناته الأخيرة والأمنيّة منها على وجه الخصوص، إلى تقليم أظافر هذا الطرف وإنْ لم يسمِّه حتّى هذه اللحظة
للإجابة عن هذا السؤال نستطيع القول بأنّ كلّ الملفات الاقتصادية والاجتماعية يمكن تأجيلها أو تسويفها ريثما تتسنّى الفرص الجيّدة للحكومة للمضي بها، ولكنْ ما لا يمكن التلاعب به هو مسألة الدّم العراقي؛ خاصّة أنّ كثيراً من أصوات الشارع لا تبدي انزعاجاً من الكاظمي بقدر ما تقدِّر بأنّ الرّجل يعمل وفق طاقته، وأنّه ورث تركة أمنيّة واقتصاديّة ثقيلة لا يمكن تجاوزها في أشهر قليلة، وأما ما يخصُّ تساؤلنا حول لماذا يبقى الطرف الثالث طيّ الكتمان؛ فإنّ مردّ ذلك يعود إلى جملة أسباب أهمّها:
أولاً: قوّة النفوذ الإيراني في العراق: ومردّ هذا النفوذ إلى اعتماد إيران على زعزعة المشهد السياسي والعسكري على السّاحة العراقيّة من خلال إغراقه بالمليشيات التابعة لها وإمدادها بالمال والسلاح على أسس ولائيّة طائفيّة لا تمتُّ للوطنية بصلة، بل إنّها تعمل ليل نهار على تعويم المشروع الإيراني وتنفيذ الأجندات بأوامر من "طهران"، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ من الدعم المالي والعسكري، بل عملت إيران من خلال المليشيات نفسها على تعويمها سياسياً على المشهد العراقي حتّى باتت قوّة سياسية حتّى على مستوى السلطة التشريعيّة، إذ دخلت هذه المليشيات وقادتها البرلمان العراقي ممّا منحها ثقلاً سياسياً مدّ ذراع إيران إلى داخل صناعة القرار السياسي والتشريعي .
ثانياً: توفير الغطاء لهذه المليشيات عبر بعض السياسيين: بعد أنْ تصدّرت هذه المليشيات المشهد السياسي العراقي باتت تتمتّع بورقة إضافيّة جعلت الكثير من السياسيين المذبذبين يحابونها من أجل تحقيق المكاسب السياسية لأنفسهم أو لكتلهم للظفر بمقعد نيابيّ، بالإضافة إلى نوّاب هذه المليشيات، وهو الأمر الذي سعت إليه إيران لاستقطاب تلك الفئة من السياسيين، مما أدّى إلى توفّر غطاء سياسي تشريعي جعل من هذه المليشيات الولائيّة أمراً مفروضاً، فازداد نفوذها وقويت شوكتها لدرجة أنّه صار من الشجاعة أنْ يجرؤ سياسي أو حتى مفكّر على أنْ ينتقد هذه الأذرع أو أنْ يتوجّه بكلمة على سلوكها وأدائها الميداني أو السياسي، لأنّ الأمر قد لا يقف عند حدّ خسارة المرء منصبه أو عمله بل قد يكلّفه حياته.
ثالثاً: عدم قدرة الحكومات السابقة على مواجهة هذه المليشيات: إذ لا يشكّ امرؤ في أنّ أيّ رئيس حكومة مهما بلغ من الفساد أو المحاباة إلا أنّه يطمح إلى أنْ يغيّر شيئاً على الساحة السياسية والمعيشيّة للمواطن العراقي الذي تعطلت كلّ مناحي حياته بتعطل الحياة السياسية واتجاهها باتجّاه واحد فقط وهو خدمة الأجندات الخارجيّة وعلى رأسها الإيرانيّة، التي لا ترى في العراق إلا حديقةً خلفيةً ومتنفّساً لتمرير رسائلها السياسية والعسكرية وحروبها الاستعراضية مع الإقليم والولايات المتحدة، ولكن تلك الحكومات لم تستطع مواجهة تلك المليشيات التي استغلّت الوضع الأمنيّ بحرب تنظيم "داعش"؛ الحرب التي بحجّتها أغرقت إيران العراق بالأسلحة بيد المليشيات التي وصل بها الأمر حدّ منافسة المؤسسة العسكريّة المتمثلة بالجيش العراقي والشرطة الاتحاديّة، ممّا كبّل الحكومات السابقة عن المواجهة لئلّا تجرّ البلاد إلى حرب أهليّة قد تودي بالعراق إلى الهلاك المحتوم.
ولكن على الرغم من أنّ السياسيين العراقيين لا يفصحون عن الطرف الثالث الذي أصبح بالنسبة للعراقي في تلقيه للخطاب السياسي ممّن يديرون دفّة السياسة العراقية مدعاة للتهكّم، ولكن لا بدّ من التريث وإعطاء "الكاظمي" وحكومته الوقت الكافي، فممّا يُحسَبُ للرجل هو أنّه يعي تماماً ما يواجهه وحكومته من تحديّات، وأنّ هذا الطرف الثالث هو العقدة التي يعمل على حلها، عمل لا شكّ جسيم وتنتظره فيه ملفّات شائكة قد لا تبدو واضحة إلّا للمتبصّر الذي يعي خطورة هذا الملف وضرورة التعامل معه بحذر شديد لأنّه إنْ تمّ باصطدام مباشر ولم يحقّق النجاح فمآلاته خطيرة جداً قد تودي بالعراق، مما يجعل الأجدر أنْ يتمّ الأمر بسياسة ودبلوماسية متأنيّة، ومن وعي حكومة "الكاظمي" لضرورة كشف الطرف الثالث وتحجيمه هو ظهور مصطلح "الدولة" ومصطلح "اللادولة" وتصريحات الكاظمي المتواترة بأنّ منهج اللا دولة لا مكان له في العراق، وأنّ الدولة هي التي ستسود في إشارة واضحة إلى توسّع النفوذ المليشياوي حدّ مقارعته الدولة بمؤسساتها السياسية والعسكرية، وهو ما لن يقبله الكاظمي ولا حكومته وبأنّه لن يقف مكتوف الأيدي وهو ينظر إلى الدولة العراقية تذوي لصالح اللادولة، ومما يعزّز هذه المقصديّة ثورانُ قادة المليشيات على حكومة الكاظمي ومن بينهم "قيس الخزعلي" قائد مليشيات "عصائب أهل الحق"، واصفاً الكاظمي بأنه قادم إلى الحكومة بمرجعيّة سياسيّة هزيلة في إشارة إلى أنه أي الكاظمي يحاول تقويض دور المليشيات بعد أن اعتقلت الشرطة الاتحاديّة منفذّي الاعتداء على المنطقة الخضراء في يونيو/حزيران المنصرم وهو ما يعدّ ضربة للطرف الثالث.
ممّا لا شكّ فيه أنّ مساعي الكاظمي وإطلاقه على نفسه لقب "الشهيد الحي" ما هي إلا رسالة يتوعّد بها الكاظمي الطّرف الثالث الذي لم يجرؤ أحد حتّى على تسميته، وما المسألة إلا مسألة وقت قصير يحاول الرجل استغلاله وهو يعلم أنّ أمامه ما يقلّ عن عامين فقط لتقديم إنجاز للعراق والعراقيين من جهة، ولإثبات قدرته السياسيّة وبناء مستقبله السياسي الذي لنْ يغامر به من أجل مسلّح خارج على القانون يتّبع أيديولوجيّة دخيلة لا تمتّ للعراق ولا للعراقيين بصلة، إنّما هي خدمة لدولة مثل إيران التي لا هدف لها إلّا بناء أحلامها على دماء الشعوب الأخرى، فالأيّام القادمة حُبلى وستتمخّض عن كشف الطرف الثالث ووضعه على منصّة المحكمة الشعبيّة أمام الرأي العام العراقي والجماهير الشعبيّة التي ضاقت ذرعاً بواقع سياسيّ وميدانيّ نفد صبر العراقيّ على تحمله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة