من دون شك، الموقف الأوروبي ضعيف إلى الآن، ولهذا الضعف أسباب كثيرة لها علاقة بالتشتت والانقسام واتباع سياسة المهادنة
لماذا قرر أردوغان ترحيل الدواعش في هذا التوقيت؟ سؤال يطرح نفسه بقوة بعد كل هذه السنوات من الصمت والتستر عليهم رغم اتهام تركيا بتقديم مختلف أشكال الدعم لتنظيم داعش، وجعل أراضيها ممرا ومأوى ( للجهاديين) الذين تقاطروا إلى المنطقة من مختلف أنحاء العالم.
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التوقف عند ثلاث رسائل أساسية لجهة التوقيت:
الأولى: ممارسة المزيد من الابتزاز لأوروبا، فبعد قضية اللاجئين وتهديد أردوغان الدائم لأوروبا بإغراقها باللاجئين جاءت قضية الدواعش المعتقلين لديها، وهو يريد من هذا الابتزاز تحقيق هدفين؛ الأول: الحصول على المزيد من الأموال التي يحتاج إليها. والثاني: إجبارها على الصمت إزاء عدوانها على شمال شرق سوريا، ولاسيما بعد انتقاد الرئيس الفرنسي ماكرون لهذا العدوان، وقوله إن العملية التركية جعلت من الحلف الأطلسي بحكم الميت سريرا.
بعد عقود من الانتظار التركي أمام باب العضوية الأوروبية، باتت سياسات أردوغان الصدامية ترسم خطوطا جديدة للمواجهة مع أوروبا، وهي مواجهة ستكون عاملا في إعادة توحيد صفوف الأوروبيين لأسباب حضارية وتاريخية وجغرافية قبل أن تكون سياسية
الثانية: إدراك أردوغان ضرورة تغيير أسلوب تعامله مع تنظيم داعش في مرحلة ما بعد مقتل زعيمه أبوبكر البغدادي في قرية باريشا السورية التي كانت تحت الرعاية الأمنية لتركيا، ولعله يريد هنا التبرؤ من التهم الكثيرة لتركيا بتقديم أشكال الدعم لداعش، وذلك من خلال الظهور بمظهر المحارب له.
الثالثة: رسالة تركية تسبق قمة أردوغان-ترامب في البيت الأبيض، مفادها أن أردوغان على خط التوافق مع ترامب بخصوص مصير الدواعش المعتقلين، خلافا لمواقف الدول الأوروبية التي ماطلت كثيرا في قضية تسليم مواطنيها الذين التحقوا بصفوف التنظيم، رغم الإلحاح الأمريكي بضرورة استعادة الدول الأوروبية الداوعش من مواطنيها، وقد عرف أردوغان كيف يستغل نقطة الضعف الأوروبية هذه وإثارتها في هذا التوقيت لجني مكاسب سياسية ومالية.
بانتظار نتائج قمة ترامب-أردوغان، فإن رسائل أردوغان هذه وضعت أوروبا في موقف حرج، إذ لم يعد صمتها مجديا أمام استمرار حملة الابتزاز التركي لها، وهي باتت تشعر بأنها أمام خيارين؛ إما رد قوي على مجمل السياسة التركية المستفزة بدءا من قضية اللاجئين إلى العدوان التركي على شمال شرقي سوريا وصولا إلى قضية الطاقة في شرقي البحر المتوسط، وإما الاستمرار في مسلسل تقديم التنازلات لتركيا والصمت على جرائمها وصولا ربما إلى طلب أردوغان من الدول الأوروبية تقديم الأموال له بإقامة مدن في (المنطقة الآمنة) التي تقرر إقامتها بين رأس العين-وتل أبيض في شمال شرقي سوريا، وهو مشروع يريد أردوغان منه إحداث تغير سياسي واجتماعي خدمة لسياساته وطموحاته التي تتوسع يوما بعد آخر. والسؤال هنا: هل أوروبا جادة وقادرة على اتخاذ موقف حازم تجاه تركيا ؟
من دون شك، الموقف الأوروبي ضعيف إلى الآن، ولهذا الضعف أسباب كثيرة، لها علاقة بالتشتت والانقسام واتباع سياسة المهادنة وأولوية المصالح التجارية على القضايا السياسية، ولكن هل سيبقى الموقف الأوروبي إلى ما لا نهاية هكذا؟ ثمة قناعة بأن الصبر الأوروبي بدأ ينفد، وأن كلفة القبول بالابتزاز التركي باتت أكثر تكلفة من اتخاذ موقف حازم ضدها، وأن أوروبا لديها أوراق قوية لاستخدامها، ولعل من أهم هذه الأوراق وجود قرابة خمسة ملايين تركي لاجئ في أوروبا، إذ يستطيع الأوروبيون تهديد تركيا بإعادة هؤلاء اللاجئين إذا استمرت تركيا في ابتزازهم بورقة اللاجئين والدواعش كما قال وزير الداخلية النمساوي مؤخرا.
في الواقع، بعد عقود من الانتظار التركي أمام باب العضوية الأوروبية، باتت سياسات أردوغان الصدامية ترسم خطوطا جديدة للمواجهة مع أوروبا، وهي مواجهة ستكون عاملا في إعادة توحيد صفوف الأوروبيين لأسباب حضارية وتاريخية وجغرافية قبل أن تكون سياسية، لطالما أن أردوغان في ذاكرتهم هو حفيد السلاطين الذين دكوا أسوار فيينا وملؤوا شوارعها بالدم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة