لم تكن الاستخبارات المركزية الأميركية وشركاؤها على استعداد أبدًا لتوفير السلاح لقوات المعارضة.
سقوط حلب هو كارثة إنسانية، كما أنه تعبير عن المخاطر التي تخيرت المسار الأوسط في النزاع العسكري. في بعض الأحيان من الممكن أن نتحدث ونقاتل في الوقت نفسه. ولكن في سوريا، كان قرار الولايات المتحدة بانتهاج المسار المزدوج حتى منتصف الطريق قد عاد بنتائج جدًا وخيمة.
قدم جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة المشوش نداء آخر يوم الخميس للإجلاء السلمي لما تبقى من سكان حلب. وفي مؤتمر صحافي بوزارة الخارجية الأميركية، استخدم أقوى اللهجات في وصف الموقف الراهن هناك؛ إذ قال: «إنها سربرنيتسا أخرى، ليست أقل من مجزرة، مذبحة عشوائية، وسياسة شديدة السخرية لإرهاب المدنيين».
ولكن على مدى خمس سنوات، لم يتفق الخطاب الأميركي مع الأفعال على أرض الواقع. والسلاح الوحيد في متناول الوزير كيري الآن هو المعاناة الرهيبة للشعب السوري والإحساس بالعار الذي يتولد داخل كل من يشاهد الخراب والدمار. كما يخيم هذا العار على إداراته أيضًا.
يقول منتقدو كيري إن جهوده للتفاوض بشأن التسوية السلمية في سوريا كان محكومًا عليها دائما بالفشل. ربما الأمر كذلك، ولكن بعد التدخل العسكري الروسي في سبتمبر (أيلول) من عام 2015، خلصت الإدارة الأميركية إلى أن الدبلوماسية هي السبيل الوحيد القابل للتطبيق بشأن حلب. وباتخاذ قرار كهذا، كان على المسؤولين العمل على إنجاح المساعي الدبلوماسية. بدلاً من ذلك، ظلوا يتلاعبون بالمعارضة المسلحة التي لم يكونوا على استعداد فعلي لدعمها في الحقيقة.
في تاريخ الحروب السرية، يستحق دعم الاستخبارات الأميركية للمعارضة السورية أسوأ الفصول وأحلكها، حيث بدأت جهود الدعم في وقت متأخر للغاية، بعد ما يقرب من عامين كاملين من بدء الحرب، وبعد ما شرع المتطرفون في السيطرة على مجريات القتال ضد قوات بشار الأسد. وكان هناك مزيج غريب من الدول الإقليمية ومقاتليهم بالوكالة، حيث التنسيق الاسمي من مراكز العمليات في الأردن وتركيا، ولكن واقع الأمر كانت تسيطر عليه أكثر من 80 ميليشيا محلية ذات قيادات في غالب الأمر فاسدة، ويظهرون أمام العالم بمظهر «الجهاديين».
لم تكن الاستخبارات المركزية الأميركية وشركاؤها على استعداد أبدًا لتوفير السلاح لقوات المعارضة، وخصوصًا الصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف، والتي كانت تسمح لهم بالنصر في المعارك. ولكن الاستخبارات الأميركية وفرت لهم الصواريخ المضادة للدبابات والتي أثبتت قوتها بما فيه الكفاية من حيث الأضرار التي ألحقتها بقوات الأسد في صيف عام 2015، وبدأ المحللون في الإحساس بالقلق حول «النجاحات الكارثية» مع انهيار النظام الحاكم السوري وملء فراغ السلطة في دمشق بالجماعات المتطرفة. ولم يمر وقت طويل حتى تدخلت روسيا في الصراع.
كانت المشكلة الكبرى للاستخبارات الأميركية تكمن في أن حلفاءها لا يستطيعون وقف هيمنة «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة في البلاد. وكان من شأن جماعات المعارضة المتحقق منها أن تبدو على خلاف ذلك، ولكنها كانت تقاتل جنبًا إلى جنب مع «جبهة النصرة»، التي أعادت تسمية نفسها خلال العام الحالي إلى مسمى «جبهة فتح الشام». وجذب المتطرفون جماعات المعارضة الأخرى إلى صفوفهم لسبب وحيد؛ أنهم ومقاتليهم هم الأكثر استعدادًا للموت دفاعًا عن القضية.
حاولت الولايات المتحدة تمديد هذه المشكلة؛ ففي عام 2014 كنت في زيارة لدى أحد قادة جماعات المعارضة المتحقق منها لدى الاستخبارات الأميركية، والمعروفة باسم حركة الحزم، في أحد المنازل الآمنة على طول الحدود السورية - التركية. كان المقاتلون مفعمين بالقنوط؛ فلقد قصفت الولايات المتحدة أحد المعسكرات القريبة التابعة لـ«جبهة النصرة»، في محاولة لقتل المسلحين التابعين لما يسمى بجماعة خراسان. وقال المقاتلون المدعومون من الاستخبارات الأميركية إن هذا التصرف قد دمر مصداقيتهم. ولقد كانوا على حق؛ فلقد طاردتهم قوات «جبهة النصرة» بعد ذلك بوقت قصير خارج مقرات قيادتهم.
كان كيري من أوائل الدعاة لاستخدام القوة العسكرية ضد نظام بشار الأسد، ولكن بعد التدخل الروسي الحاسم في العام الماضي، بدأ في النظر إلى برنامج الاستخبارات الأميركية وكأنه عائق على طريق الاتفاق الدبلوماسي الذي اعتبره في ذلك الوقت الخيار الواقعي الوحيد. ولم يرغب كيري في التخلي عن قوات المعارضة المتحقق منها بالكلية، ودعا إلى منح بعض الجماعات المزيد من الأسلحة. ولكنه اعتقد أنه يجب على الولايات المتحدة الاستمرار في توفير المساعدات المشروطة باستعداد جماعات المعارضة الانفصال عن «جبهة النصرة»؛ الأمر الذي كان عدد قليل من جماعات المعارضة راغبة أو مستعدة لفعله.
ومن ثم استمر التمديد. اجتمع كيري بشكل مكثف خلال العام الحالي مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، من أجل تنفيذ «وقف الأعمال العدائية» الذي تم التفاوض بشأنه على الورق في فبراير (شباط) الماضي. وكانت الاستخبارات الأميركية في الوقت ذاته مستمرة في تنفيذ البرنامج الذي يستهدف روسيا وحلفاءها من سوريا وإيران، وساعدت في حماية «جبهة النصرة».
وتفاوض كيري بشأن وقف قريب لإطلاق النار في سبتمبر، ولكنه كان مشروطًا بوقف أعمال القتال، الذي طالب به المتشككون في وزارة الدفاع الأميركية، وهو الأمر الذي لم يكن بوسعه أو بوسع لافروف تنفيذه. ولم توقف روسيا قوات الأسد أو القوات الإيرانية. ولم يتمكن كيري من الوفاء بوعده بفصل جماعات المعارضة المعتدلة عن قوات «جبهة النصرة». وكانت قوات المعارضة، الجيدة منها والفاسدة، متجمعة معًا داخل منطقة حلب. ولم تتمكن الولايات المتحدة من فصل تشابك التحالف المناهض للأسد كما تعهدت من قبل.
كانت مهمة كيري مستحيلة في محاولة إدارة السياسة التي كانت تسير في مسارين في الوقت نفسه. ربما كان يجب عليه التوقف، عندما استشعر بأنه لا جدوى من وراء بذل المزيد من الجهود. ولكن نقطة قوة وضعف كيري الحقيقية هي اعتقاده بأنه يمكنه تحريك الجبال. ولكن ليس هذه المرة. بدلاً من ذلك، فلقد سُحقت جهوده تمامًا تحت أنقاض السياسة المرتبكة.
*نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة