الجميع يعرف أن تفاهمات اليوم بين أنقرة والنصرة هي مؤقتة وظرفية.
العنوان البديل لهذه المادة كان يمكن أن يكون "هل بدأت تركيا تغيّر في سياستها السورية؟"، فوقع الاختيار على تساؤل "هل تسقط أنقرة في مصيدة إدلب ؟ " بسبب التطورات والتغيرات العسكرية والسياسية المتلاحقة في المشهد السوري .
أنقرة تعرف أيضاً أنّها تغامر بخسارة رهان المعارضة السورية عليها، واحتمال وجود تفاهمات روسيّة أمريكية على حسابها تخرجها من المعادلة السورية لاحقاً عند انتهاء مهمتها .
الحقيقة هي أن قناعات كثيرة ظهرت إلى العلن في الأيام الأخيرة حول احتمال تغيير أنقرة لسياستها حيال دمشق والنظام..بينها:
- مفاجأة تسليم أنقرة الطيار السوري، العقيد محمد صوفان، الذي سقطت طائرته داخل الأراضي التركية في مارس / آذار المنصرم لقوات النظام.
عملية التسليم كان لها وقع الصاعقة في أوساط قوى المعارضة السورية، وبعدما كان «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة قد تقدم بمذكّرة للسلطات التركية، يطلب فيها محاكمة الطيّار المرتبط بالنظام بتهمة قصف المناطق السكنية في المدينة، صحيح أن المعارضة لم تقدّم إلى القضاء التركي ما هو مقنع بمشاركته في تنفيذ غارات ضدّ مواقع مدنية، أو تثبت مشاركته خلال سنوات الثورة بغارات من هذا النوع. لكن مسألة توقيت الإفراج عنه مع الإعلان عن دخول القوات التركية إلى إدلب، تحمل معها عدة تساؤلات حول احتمال أن تكون هذه التطورات خطوة على طريق مراجعة المواقف بين أنقرة ودمشق في قراءة مسار الأزمة السورية كما رأى البعض .
بعد ذلك يأتي التقرير الذي نُشِر في صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية حول أن تركيا تمارس في شمال سوريا "دوراً تخريبياً"، وهذا ما دفع وزارة الدفاع الروسية إلى تعزيز دعم الجيب الكردي في عفرين، وإعلانه منطقة وقف تصعيد بعد تعرّضه لعمليات قصف متكرّرة من القوات التركية لتظهر التطورات المتلاحقة بعدما تخلت تركيا عن حليفها الأمريكي، وذهبت وراء تفاهمات أستانة، بحثاً عن الدعم الروسي لها باتجاه قطع الطريق على مشروع الكيان الكردي في شمال سوريا .
ثم هناك التساؤل الذي برز إلى العلن قبل أسابيع حول احتمال وقوع مواجهة سياسية تركية روسية كبيرة، إذا ما كانت عملية دخول قوات روسية إلى تل رفعت في شمال غرب سوريا قد تمت من دون علم الأتراك وموافقتهم، وإذا ما كان وراء التحرك الروسي العسكري تفاهمات أمريكية روسية على حساب أنقرة، أو إذا ما كانت موسكو تفعل ذلك، ربما إرضاءً للنظام في دمشق، ولحماية مصالحها مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، فبرز السيناريو الثالث وهو تفاهم تركي روسي إيراني واسع في أستانة 6، بعدم فتح الطريق أمام اندماج الكانتونات الكردية في الشمال السوري، ودخول القوات التركية مدينة إدلب بغطاء جوي روسي وضمانات إيرانية بعدم "مشاغبة" النظام ضد أنقرة .
ما يتبناه غالبية الأتراك اليوم هو أن المصالحة والتطبيع التركي - الروسي أدّيا إلى تفاهمات واتفاقات ثنائية وإقليمية كثيرة، بعضُها أُعلِن عنه وبعضها الآخر لا يزال غيرَ معروف بالنسبة إلى كثيرين. الملف السوري كان واحداً من الملفات، ومراجعة أنقرة لمواقفها من النظام ستكون الخطوة الأصعب بالنسبة للقيادة السياسية التركية التي بدأت تثق بما تقوله موسكو .
أما سبب التغيير المفاجئ في عنوان المادة، واستبداله بعنوان آخر حول تساؤل "هل تسقط أنقرة في مصيدة إدلب؟ " فهو حقيقة أن الانفتاح التركي الواسع على موسكو لم يقنع النظام بضرورة قبول ما يجري على ما يبدو، ومسارعته لمطالبة أنقرة بخروج فوري من منطقة إدلب لأن انتشارها لا يمت بصلة إلى اتفاق خفض التوتر الذي تم التوصل إليه في مباحثات أستانة، وفق ما تقوله وزارة خارجية النظام . "تطالب الجمهورية العربية السورية بخروج القوات التركية من الأراضي السورية فوراً ومن دون أي شروط، لأنه عدوان سافر على سوريا، وبالتالي على النظام التركي التقيّد بما تم الاتفاق عليه في أستانة".
المؤكد هو أن الانتشار التركي في إدلب والأهداف التركية اللامعلنة في العملية أغضبت النظام السوري لأكثر من سبب بينها:
- اعتبار النظام في دمشق أن عملية عسكرية جديدة لأنقرة في سوريا، تحت شعار تطهير إدلب من بقايا مجموعات جبهة النصرة والمساهمة في خطة تخفيض التوتر في سوريا هدفها الحقيقي هو التقدم باتجاه آخر؛ كتسهيل انتشار وتمركز قوات الجيش السوري الحر في إدلب، والاستعداد لمحاصرة "وحدات حماية الشعب" الكردية في عفرين ومنع اقترابه هو من المنطقة. فأين حصته وجائزة ترضيته هو في كل ذلك؟.
- وراء موقف النظام التصعيدي أيضاً التفاهمات التركية الروسية الأخيرة التي أقلقت طهران وأغضبتها، فخلال أقل من شهرين كان هناك أكثر من لقاء جمع الرئيسين، بوتين وأردوغان، أمام طاولة تفاهمات ثنائية وإقليمية تركت إيران جانباً بسبب رفضِ الفرقاء المحلّيين والشركاء الإقليميين والدوليين تواجدَها، وهي بذلك تحرك النظام بالوكالة والنيابة عنها ليصعّد ضد أنقرة .
- وهناك حتماً سبب فشل رهان النظام على وقوع مواجهة عسكرية على جبهات عفرين لم تندلع حتى الآن، ناهيك عن رفض الفصائل المتواجدة في إدلب التدخل الكردي في المدينة كما حدث في الرقة، إضافة إلى التقاء المصالح التركية الروسية لمنع تمدد الأكراد نحو إدلب، وهي ورقة كان نظام الأسد يراهن عليها في وجه تركيا . التواجد العسكري الروسي في تل رفعت وعفرين لضمان الفصل بين الكانتونات الكردية خدمة تقدّمها موسكو لأنقرة، ولا يمكن لها سوى أن تغضب النظام أيضاً .
- بينما أغضب النظام السوري كذلك الأنباء التي تتحدث عن عمليات تنسيق واسعة تجريها أنقرة مع اللاعبين المحليين و الفصائل المقاتلة على الأرض، إذ عيّنت ضبّاط ارتباط في الداخل الإدلبي، وكل ذلك للتخفيف من عبء وكلفة المواجهة المحتملة مع تنظيم هيئة تحرير الشام .
- هذا إلى جانب معلومات تقول إن روسيا تريد تخفيض التوتر في إدلب، وهناك حديث جدي حول تقسيم المحافظة إلى ثلاث مناطق نفوذ: الأولى تمتد شرق سكة القطار على خط حلب- دمشق، وهي منزوعة السلاح وتحت الحماية الروسية، تواجه فيها القوات الروسية هيئة تحرير الشام، والثانية بين السكة والأوتوستراد، وتتواجد فيها هيئة تحرير الشام، التي ستقاتل فيها التحالف الروسي التركي، والمنطقة الثالثة تمتد من الحدود التركية إلى أوتوستراد حلب- دمشق الدولي، وتخضع للنفوذ التركي بالتنسيق مع فصائل معارضة”، فأين حصة ودور النظام السوري في كل هذا؟
المسألة بالنسبة لتركيا لن تكون، رغم تحالفها مع روسيا وإيران، بمثل هذه البساطة في إدلب إذا ولأكثر من سبب:
- قد تكون أنقرة قبلت قرارات أستانة 6، لأنّها أطلقَت يدَها في إدلب، وأبعدت صالح مسلم وأنصاره عن كازاخستان، ونجحت في تحقيق مطلب إبقاء طهران خارج ما يجري إرضاءً للشركاء، لكنّها تعرف أيضاً انّها تغامر بخسارة رهان المعارضة السورية عليها، واحتمال وجود تفاهمات روسيّة أمريكية على حسابها تخرجها من المعادلة السورية لاحقاً عند انتهاء مهمتها .
- احتمالات أن لا تكون مهمة أنقرة في إدلب بمثل هذه السهولة أشار إليها أيضاً القيادي السوري المعارض وكبير المفاوضين إلى «جنيف»، محمد صبرا برفضه للتدخل العسكري التركي في إدلب على هذا النحو، والتي أثارت موجة من الانقسام في أوساط المعارضة وصلت إلى حد الطلب بإقالته "تركيا لم تدخل إدلب لمصلحة السوريين، ولن نقبل أن نكون أدوات بيد من يعملون على تدمير الحراك المدني وحلم السوريين بالحرية " .
- زيارة الرئيس الروسي بوتين لأنقرة في أواخر الشهر المنصرم، والتي أعقبتها زيارة الرئيس التركي للعاصمة الإيرانية توجتا بإعلان أردوغان أن قوات بلاده بدأت عملية عسكرية في إدلب، لكنه أعلن كذلك أن بلاده لن تتسامح مع وجود “ممر إرهابي” بمحاذاة حدودها؛ في رسالة واضحة أن القوات التركية ستتحرك باتجاه عفرين أيضاً. تصريحات ومواقف النظام السوري تقول إن ما يجري هو ليس في إطار تفاهمات أستانة، وإن تركيا تتحرك بمفردها في عملية من هذا النوع، فكيف سيرد التحالف الثلاثي على أسلوب ولهجة النظام التصعيدية هذه؟
- ما أغضب دمشق كان أيضاً إعلان نور الدين جانيكلي وزير الدفاع التركي أن العملية في إدلب ستستمر دون تاريخ محدد لها، و تنتهي عند زوال "التهديدات القادمة باتجاه تركيا من الجنوب، وأن القوات التركية تتحرك مع “الجيش السوري الحر”، السوريون هم الذين سيدافعون عن أرضهم. مواقف تركية من هذا النوع هي ما أغضب النظام في سوريا حتماً، خصوصاً اختيار أنقرة لحليفها الجيش السوري الحر كشريك يسيطر على إدلب على حساب بقية اللاعبين المحليين في سوريا، وعلى رأسهم النظام الذي كان ولا يزال يبحث عن فرصة لاختراق المشهد الميداني في إدلب .
الجميع يعرف أن تفاهمات اليوم بين أنقرة والنصرة هي مؤقتة وظرفية، وأنه قد لا يكون بين أولويات الأتراك إشعال مواجهة مع المجموعات المتشددة في المدينة، لكن موسكو وطهران والنظام، وحتى واشنطن لن يرضوا بأقل من ذلك. وما الذي ستقوله أنقرة لموسكو بعد فترة إذا ما طالبتها بعدم الاقتراب من عفرين؟، حيث مصالحها واتفاقياتها مع حزب الاتحاد الديمقراطي تتعرض للخطر .
أيُّما ستختاره موسكو مسألة اختبرتها تركيا في علاقاتها مع واشنطن قبل أشهر عندما رجحت وحدات سوريا الديمقراطية كشريك وحليف لها في سوريا، فمن يضمن لأنقرة أن موسكو لن تفعل الأمر نفسه إذا ما حاصرتها تركيا بهذا السؤال في معركة عفرين؟ وما الذي ستقدم عليه أنقرة إذا ما قررت موسكو، مثلاً، بعد فترة دعوتها لمغادرة الأراضي السورية، إفساحاً في المجال أمام بناء سوريا الجديدة، إذا ما شعرت أن الحكومة التركية لن تدخل في مواجهة عسكرية مع مجموعات هيئة النصرة مهما تبدلّت الظروف؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة