لا يكاد يمضي يوم إلا ويقع فيه حدث يصعّد التوتر القائم بين تركيا وألمانيا.
يرى بعض الأتراك المتحمسين لحزب العدالة والتنمية أن تحذيرات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحوالي مليون ألماني من أصل تركي بعدم التصويت "للأحزاب التي تكنّ العداء لتركيا، و"لتكن أصواتكم في الانتخابات صفعة موجهة إلى كل من تهجّم على تركيا، كان لها تأثيرها وأن الجالية التركية لم تخيب ظنه وأعطته ما يريد من خلال التصويت باتجاه إضعاف الأحزاب الألمانية الرئيسية الثلاثة، ما ساهم بشكل أو بآخر في ترك ألمانيا أمام أزمة حكومية مستفحلة قد تقود إلى انتخابات مبكرة قريبة .
"فرص الحوار بين أنقرة وبرلين تتراجع ليس فقط بسبب تصلّب المواقف في العاصمتين بل بسبب إضافة ملفات توتر جديدة إلى جانب القديمة، وعلى رأسها صعود اليمين القومي الألماني الذي سيكون له ارتداداته السلبية على أوضاع أكثر من 3 ملايين تركي في ألمانيا".
مثل هذه المواقف تقطع الطريق أيضاً على مقولة إن العلاقات بين أنقرة وبرلين ستعود إلى سابق عهدها، وعلى ما كانت عليه قبل عامين مثلاً بعد خروج ألمانيا من أجواء الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فالذي يجري هو العكس تماماً . رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم يوجه رسالة تهنئة إلى المستشارة الألمانية ميركل لفوزها في الانتخابات الأخيرة لكنه لا يتردد في القول إن "ميركل أدركت أن التفوه بالكلام الكبير الذي يتجاوز الحدود، لا فائدة منه " .
لا يكاد يمضي يوم إلا ويقع فيه حدث يصعّد التوتر القائم بين تركيا وألمانيا. آخر تطور كان اتخاذ برلين قرارًا بفرض المزيد من القيود على بيع السلاح لتركيا، وقول أردوغان بعد إعلان النتائج إنكم لن تستطيعوا تحقيق شيء ضد تركيا .
كان البلدان على مر التاريخ قريبين من بعضهما على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي ، لكنهما يذهبان اليوم بمنحى آخر يكاد يطيح بشراكة تجارية تتجاوز الأربعين مليار دولار سنوياً . المناخ المشحون بين حكومتي أنقرة وبرلين كان له تأثيره على خيارات الألمان في انتخابات البوندستاغ، وسيقود تدريجياً إلى بروز حالة من التوافق الألماني السياسي على المدى البعيد لتغيير نهج وأسلوب العلاقة مع تركيا أولا؛ وذهاب برلين إلى المزيد من التصعيد ضد العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي ثانيا .
برلين أعلنت عزمها على التحرك باتجاه تعليق مفاوضات الاتحاد الأوروبي مع تركيا، وحتى قطع الطريق على عضويتها، وأردوغان يقول إن تركيا لم تعد بحاجة إلى العضوية الأوروبية . بين أسباب هذا الخلاف من وجهة نظر تركيا هو السلوك العدائي لألمانيا تجاهها، ودعمها أو تغاضيها عن أنشطة حزب العمال الكردستاني ومنظمة غولن. ومؤخرًا احتضانها بعض المطلوبين أمنيّاً من تركيا .
أما على الصعيد الألماني فبرلين تتحدث دائماً عن انتهاكات حقوق الإنسان والظلم والقيود على حرية الصحافة والاعتقالات في تركيا، وتوقيف بعض مواطنيها في تركيا بتهم التجسس والعمالة وإغلاق قاعدة انجرليك العسكرية التركية أمام زيارة نوابها .
ربما الذي يغضب القيادات السياسية التركية اليوم هو شعورها بأن العقبة الأكبر أمام الحلم التركي في حجز مقعد أمامي على المنصة الأوروبية هي برلين ومواقفها المتشددة ضدها، وكذلك منافسة ألمانية واضحة لتركيا داخل حلف شمال الأطلسي على إبعاد أنقرة عن مكانها كقوة أساسية ثانية في الحلف بعد الولايات المتحدة الأميركية، وإظهار أن برلين بقبولها مغامرة قيادة توقيع اتفاقية اللجوء مع تركيا كانت تريد إنهاء احتكار تركيا لهذا الملف، ولعبه ضد المجتمع الدولي في جهود توفير الحماية واللجوء للمحتاجين إليها .
لا أحد في تركيا أو ألمانيا يتوقع انتهاء الخلافات في وقت قريب ، بل العكس هو الصحيح . مشكلة أنقرة أنها تتجاهل حقيقة الموقع والدور والنفوذ الألماني في أوروبا وقبول أن المانيا هي مفتاح تركيا لأوروبا ومستقبل قبول عضويتها هي في يدها، وأن ميركل أثبتت رغم كل شئ أنها أقوى زعيم لألمانيا ولأوروبا معًا وأن وشعبيتها تتزايد أوروبيا بعد تراجع الموقف البريطاني وحيث دعت الاوروبيين الى أخذ مصيرهم بأيديهم لأنه لم يعد لديهم الشريك الأميركي الذي يمكن الاعتماد عليه . لكن مشكلة تركيا الأكبر هي قبولها لحقيقة تراجع فرصها باستمرار في علاقاتها مع ألمانيا خصوصا أنها بمحاولة تلقين ميركل الدرس هي من يتحمل أيضا مسؤولية ارتفاع أصوات اليمين القومي المتشدد بشكل أو بآخر . لا يمكن لأنقرة أن تتجاهل حقيقة قوة الاقتصاد الألماني في الداخل والخارج الذي يحظى بثقة وتأييد المستثمرين والمراقبين الدوليين أينما كانوا .
يحاول البعض في تركيا تقديم المشهد على أنه انتصار لأنقرة، وهزيمة لميركل وشولتز وحزب الخضر في ألمانيا بسبب سياساتهم تجاه التركية، لكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار أيضا أن هذا التراجع في نسب الأصوات للأحزاب الرئيسية الثلاثة رافقه صعود لأصوات اليمين القومي الألماني المتشدد، فهل القيادات السياسية التركية جاهزة لتحمل دورها ومسؤوليتها في الوصول إلى هذه النتيجة أيضا؟.
بعض الأتراك أيضا يمنون النفس بأن ميركل وللبقاء في السلطة ستضطر لتغيير مواقفها حيال أنقرة، والذهاب بمنحى التهدئة وتخفيف التوتر، لكن كل المؤشرات تظهر العكس، وأن برلين وعلى مستوى أحزابها الكبرى لن تتخلى عن ما تقوله لأنقرة بهذه السهولة، وأنها لن تترك الساحة أمام أردوغان، والدليل القرارات الألمانية الأخيرة في قبول المزيد من طلبات اللجوء لجماعة غولن في ألمانيا، وتجميد المساعدات الأوروبية لتركيا ودعوات الشركات الألمانية العاملة في تركيا للحذر والتيقظ .
السياسي الألماني من أصل تركي وأحد قياديي حزب الخضر ما زال عند موقفه "اللغة التي سنخاطب أردوغان بها هي اللغة التي يفهمها . لسنا ضد تركيا بل ضد سياسات وأساليب حكومة العدالة والتنمية " وأنقرة تقول إن برلين فتحت الأبواب مؤخراً لأكثر من 50 ضابطاً تركياً فاراً من جماعة الكيان الموازي المتهمة بالمحاولة الانقلابية .
فرص الحوار بين أنقرة وبرلين تتراجع، ليس فقط بسبب تصلب المواقف في العاصمتين بل بسبب إضافة ملفات توتر جديدة إلى جانب القديمة، وعلى رأسها صعود اليمين القومي الألماني الذي سيكون له ارتداداته السلبية على أوضاع أكثر من 3 ملايين تركي في ألمانيا، خصوصاً اذا ما واصل الأخير صعوده السياسي والشعبي في صفوف الألمان حيث ستتراجع فرص التعايش والاندماج .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة