إن انخراط المرأة في التنظيمات المتطرفة كان محدودا ولمهام بسيطة لا تعدو كونها زوجة لمقاتل من أفراد التنظيم أو لقائد من قادته.
عندما ظهر تنظيم "داعش" في عام 2014 كان ظهوره اجتياحا وطفرة أربكت العالم أجمع؛ بل إنه أربك حتى التنظيمات المتطرفة الأخرى؛ لأنه أحدث تغييرات تكتيكية وعسكرية ولوجستية وحتى فكرية في أدبيات التنظيمات المتطرفة المعروفة. ولعل أبرز تلك التغييرات في الأدبيات هو توسع تنظيم "داعش" في الاعتماد على العنصر النسائي وإصدار الفتاوى التي تسمح له بموجبها استخدام النساء كعنصر فعال في التنظيم بدءا من التجنيد وانتهاء بالأعمال الميدانية والعسكرية بل تنفيذ العمليات الانتحارية أيضا. فكيف استخدم داعش المرأة في بناء تنظيمه فكريا وعمليا؟
إن انخراط المرأة في التنظيمات المتطرفة كان محدودا ولمهام بسيطة لا تعدو كونها زوجة لمقاتل من أفراد التنظيم أو لقائد من قادته.
الفكر الداعشي المتطرف ما زال متمكنا وحاضرا بقوة، ليس عند الرجال فحسب بل عند النساء اللواتي هن أمهات ومربيات أجيال قادمة؛ فإن رضعت هذا الفكر من صدورهن المملوءة بالتطرف والتعصب فستتوالى النسخ واحدة تلو الأخرى من "داعش"
وكان نشاطها مقتصرا على الأعمال البسيطة كاستغلال سهولة تحركها في البلدان ذات الطابع الشرقي في اعتبار المرأة لا تشكل خطرا أو تهديدا لنقل المعلومات وإيصال الرسائل. وكانت أكبر مهمة ممكن أن تتصدى لها المرأة في مثل هذه التنظيمات هي إيداع عبوة متفجرة في مكان عامّ يُراد تفجيره وبتمويه تام. ولكن "داعش" لم يقتصر دور المرأة على هذه المهام؛ فقد جعل المرأة عنصرا فاعلا؛ إذ لوحظ ازدياد الفتاوى الداعشية بصيغة (جائز) و(واجب) في تبويب فتاوى الأعمال التي يمكن أن تؤديها المرأة لخدمة التنظيم بعد أن كان تبويبها في أدبيات التنظيمات المتطرفة الأخرى كـ"القاعدة" (محرم) و(مكروه)، ويمكن تبويب المهام النسائية في تنظيم "داعش" كما يأتي:
أولا: استخدام النساء في عملية التجنيد وجذب العناصر ورفد التنظيم بالموارد البشرية، وذلك بمساهمة النساء بطريقة فعالة في جذب الشباب من كل بلدان العالم سواء عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أو اللقاء المباشر، واللعب على الوتر العاطفي والنفسي وحتى الاستفزازي للعنصر المراد جذبه. وربما تكون المرأة التي جذبت ذلك العنصر قد هاجرت معه إلى موطن الخلافة المزعومة كزوجة له.
ثانيا: تنظيم النساء في "داعش" ضمن كتائب إدارية وأمنية لتكون فاعلة في التنظيم مثل (كتيبة الخنساء) الأشرس على مستوى الكتائب النسائية وتضم بحسب تقارير دولية أكثر من ألف امرأة أغلبهن أجنبيات وتتبع لما يسمى "كتائب الحسبة النسائية" ومهمتها ملاحقة النساء في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم لمتابعة الأمور الشكلية من المظهر واللباس لتعويم ثقافة التنظيم وجعلها سمة بارزة. والجدير بالذكر أن النساء في مثل هذه الكتائب لا تقتصر على التوجيه بل تأخذ صفة قيادية؛ فهي تعتقل وتعذب وتفرض البروتوكولات الداعشية على نساء المنطقة التي يحكمها داعش ولو بالقوة وبصلاحيات واسعة.
ثالثا: استغلال التنظيم للمرأة استغلالا كاملا جسديا وفكريا ونفسيا، وهو ما شكل جدلا واسعا حتى في التنظيمات الإرهابية نفسها التي عدت ذلك توسعا غير مسبوق في استغلال الإفتاء لتحقيق الغايات التنظيمية، وعلى رأسها إفتاء "داعش" بجواز جهاد المرأة بنفسها وجسدها بل في أوقات الضعف يرفع "داعش" درجة الفتوى والحكم الشرعي إلى وجوب جهاد المرأة بنفسها وجسدها؛ الأمر الذي وسّع الدوافع للانجذاب لهذا التنظيم بدوافع دينية أو انتقامية أو فكرية وحتى غريزية، فأصبحت المرأة في التنظيم عنصرا رئيسيا وفاعلا؛ إذ دخلت بذلك حتى الساحات الميدانية ومشاركة القتال مع الرجال جنبا إلى جنب. فمنهن القناصات والمقاتلات وحتى منفذات العمليات الانتحارية، كما حدث بتفجير امرأة داعشية لنفسها وهي تحمل طفلا رضيعا موهمة حاجز التفتيش العراقي أنها هاربة من منطقة سيطرة التنظيم في الموصل عام 2017، وما إن وصلت نقطة التفتيش فجرت نفسها والطفل تاركة الحاجز أثرا بعد عين.
كل ذلك يدل على أن المرأة في تنظيم "داعش" كانت توازي الرجل حضورا وفكرا وعملا، بل تسبقه في التعصب للتنظيم في أكثر الأحيان. فبعد محاصرة التنظيم من قبل "قسد" والتحالف الدولي في آخر جيوبه في "الباغوز" التابعة لمحافظة دير الزور شرق سوريا وتسليم التنظيم بالهزيمة وأن أمره غدا منتهيا وبدأ عناصره يتسابقون في الاستسلام منكسرين رافضين حتى التكلم، كانت النساء الداعشيات في مخيمات تجميعهن مع الخارجين من الباغوز يرفعن أصواتهن يشتمن النساء المدنيات اللواتي جُمعن معهن في المخيم نفسه متهماتهن بالتخاذل والردة والخيانة ويضربنهن على الرغم من أنهن فيما يشبه الحجز والاعتقال هاتفات "باقية وتتمدد"!
يشكل ذلك إشارة خطيرة على أن الفكر الداعشي المتطرف ما زال متمكنا وحاضرا بقوة وليس عند الرجال فحسب بل عند النساء اللواتي هن أمهات ومربيات أجيال قادمة. فإن رضعت هذا الفكر من صدورهن المملوءة بالتطرف والتعصب فستتوالى النسخ واحدة تلو الأخرى من "داعش"؛ ما يحتم إيلاء أولئك النسوة عناية خاصة والتعامل معهن بدقة وحذر، والوقوف على الأسباب التي دفعتهن إلى مثل هذه الأفكار؛ من خلال الحوار معهن وإخضاعهن لبرامج تعليمية وتربوية وبرامج حوارية فكرية ودينية، على أن يكون ذلك وفق منهجية وقواعد سلوكية ذات معايير خاصة لنزع الأفكار المتطرفة الظلامية من رؤوسهن ولا سيما أن أغلبهن أمهات لهن العديد من الأطفال الذين سيكونون أمام أمرين إما التشرد والحرمان أو تركهم لحليب التطرف من أمهاتهم إن لم يُعالج أمر أولئك النسوة وفق منهجية سليمة لضمان إعادة دمجهن في المجتمع من جهة ولقطع الطريق على مثل هذه التنظيمات في استدراج النساء الأخريات في المستقبل من جهة أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة