نهار الثاني من أغسطس/آب الجاري، كان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يرسل صرخة مدوية حول العالم، محذرا من أن العالم على بعد خطوة واحدة "غير محسوبة" من الإبادة النووية.
وفي التوقيت عينه كان البابا فرنسيس بدوره يغرد محذرا من مغبة ضمان السلام، من خلال توازنات الرعب النووي.
صرخة "غوتيريش" وتغريدة "فرنسيس" انطلقتا حول العالم في تزامن مع بداية أعمال مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بمراجعة معاهدة منع الانتشار النووي.
ولعل من تصاريف القدر أن تحذيرات الأمين العام للأمم المتحدة تواكبت مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، الأمر الذي أدى إلى الاعتقاد بأنه يشير إلى المواجهة الأمريكية-الصينية، والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من المجابهة المسلحة بالأسلحة غير التقليدية، سيما في ظل ما تم ترويجه وهمًا حول نية الصين قصف الطائرة الأمريكية العسكرية التي تقل "بيلوسي"، والرد الأمريكي المتوقع في تلك اللحظة.
من حسن الطالع أنه لا تزال هناك عقول تفكر بهدوء وتنسيق ما يجري بين بكين وواشنطن، فالحرب النووية ليست نزهة، ولا فائز فيها ولا مهزوم، على حد تعبير القيصر فلاديمير بوتين مؤخرا.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، تبقى رؤية "غوتيريش" حقيقية وواقعية، واعتباره أن العالم محظوظ حتى الساعة بالبقاء بعيدا عن المواجهة الذرية، اعتبارٌ له وجاهته، وقد استخدم توصيف "غير المحسوبة"، في إشارة إلى هامش الخطأ الوارد، وبخاصة في ظل تصاعد التوترات المختلفة والفخاخ المنصوبة للأمن والسلم الدوليين من مشارق الأرض إلى مغاربها.
يحذر الرجل، الساكن المبنى الزجاجي على ضفاف نهر الهدسون، من أن أدنى سوء تفاهم، أو زلة واحدة، يمكن أن تدفع بالبشر عبر الإبادة النووية.. هل غوتيريش يبالغ؟
بالمطلق لا، فالرجل له في الحق ألف حق، وعلى غير المصدِّق أن يراجع بقاعا وأصقاعا عدة حول العالم، تبدو فيها كرة الثلج النووية واضحة وضوح الشمس.
وبالنظر إلى ما يحدث حتى الساعة بين روسيا وأوكرانيا، فرغم الخفوت النسبي في حدة المعارك، فإن التهديدات باللجوء إلى السلاح النووي ظلت، وستظل، خيارا مطروحا على مائدة الخطط العسكرية، ضمن مروحة تبدأ من النووي التكتيكي، وصولا إلى الصواريخ الفرط صوتية، والجهنمية من نوعية الصاروخ "سارمات" ذي الرؤوس المتعددة.
ولعل الناظر إلى البرامج العسكرية لموسكو وبكين يدرك حقيقة الصراع النووي المحتدم، وإنْ في هدوء، وبعيدا عن الصخب والجلبة التي اعتادها الطرفان في زمن الحرب الباردة، ومن هنا يفهم المرء المعنى والمبنى من قول غوتيريش إنه توجد مخاطر لم يشهدها العالم منذ الحرب الباردة.
ترصد الولايات المتحدة الأمريكية جهرا تريليونات عدة لبرنامج تجديد ترسانتها النووية خلال العقدين القادمين، ومحاولة إحلال وتجديد ما قد فعل الزمن به فعله، لا سيما القنابل النووية والرؤوس الصاروخية التي تجاوزت الخمسة عقود.
الصين بدورها ليست بعيدة عن المعركة النووية القائمة والقادمة، ولهذا استمع العالم إلى وزير الدفاع الصيني، "وي فنغي"، في سنغافورة قبل نحو شهرين، وهو يؤكد ما كانت قد قالته أجهزة الاستخبارات الأمريكية قبل نحو عام من أن الصين تسعى لبناء حائط من الصواريخ النووية، والولوج بقوة في عالم الكبار نوويا.
في هذا السياق، يدرك الذين تابعوا نشوء وارتقاء تحالف أوكوس بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، وتزويد الأمريكيين للأستراليين بغواصات نووية متقدمة من نوع "فيرجينيا"، والتي يمكنها حمل صواريخ نووية تصل إلى قلب الحاضنات الصينية وكبريات مدنها، نقول إن هؤلاء قد استمعوا مباشرة إلى تهديدات الصين بتوجيه صواريخهم النووية إلى من يهدد أمنهم وأمانهم، ما يعود بنا بالفعل إلى الدائرة الجهنمية، التي تحدث عنها غوتيريش، حيث زلة عابرة، أو خطوة "غير محسوبة" يمكن أن تشعل العالم نوويا للمرة الأولى، وغالب الظن أنها ستكون الأخيرة.
هل رهانات العالم على الرادع النووي رهانات خائبة، لا تولد إلا علاقات مسمومة بين الأمم والشعوب حول الكرة الأرضية؟
هذا ما يؤكده البابا فرنسيس في تغريدته المشار إليها سلفا، وعنده أن استخدام السلاح النووي وحيازته هما مسألة "غير أخلاقية"، كما أن السعي إلى ضمان السلام والاستقرار من خلال شعور مزيف بالأمن وعن طريق توازنات الرعب، يعيق الحوار الأصيل، والذي يقطع الطريق على الأخوة الإنسانية.
صرخة الأمين العام، وتغريدة الحَبْر الروماني، وُجهت إلى ممثلي مائة وتسعين دولة حول العالم، يشملهم مؤتمر يستمر حتى السادس والعشرين من أغسطس/آب الجاري، ومن المفترض أن يتباحثوا في السبل الكفيلة بتعزيز معاهدة حظر استخدام الأسلحة النووية، والتي تشكّل منذ أكثر من خمسين عاما ركيزة للجهود المبذولة من أجل منع انتشار الأسلحة الذرية في العالم.
ويبقى التساؤل المثير للمخاوف: "هل جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتدفع دول العالم في طريق التخلي عن البرامج النووية، أم لتعزز من الرغبة في الحصول على مزيد من الأسلحة الفتاكة باعتبار أنها الرادع الأقوى؟".
يقول الراوي إن أرسطو رجل له ماضٍ أخلاقي، أما ميكيافيللي فله مستقبل سياسي، ومن هنا فإن البعض يفضل أن يكون مرهوبًا على أن يُضحي محبوبًا، ما يعني أن الصرخة والتغريدة قد يذهبان أدراج الرياح، فلا عزاء للمناشدات الأخلاقية والقيم الأدبية في عالم يموج بمخاوف قائمة وقادمة، عالم البقاء فيه للأقوى، وعلى من لا يصدق أن يسائل أصحاب الداروينية العسكرية، لا الاجتماعية هذه المرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة