لطالما اهتم الأحبار الرومانيون بقضية السلام، لا سيما بعد أن خبروا الأكلاف الباهظة غير الإيمانية وغير الإنسانية للحروب.
وتعد وثيقة "السلام في الأرض"، التي أطلقها البابا يوحنا الثالث والعشرون عام 1963، إحدى أهم القراءات التي صدرت عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في زمن الحرب الباردة، وقد جاءت بعد أن كان العالم قد اقترب من مواجهة نووية محققة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.
يكاد الناظر للمشهد الدولي اليوم يجزم بأن المخاوف تكاد تتكرر، من جراء الصراع الروسي-الأوكراني، وقد بات السلام العالمي مهددا بالفعل، ولهذا جاءت رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي السادس والخمسين للسلام، تحت عنوان "لا أحد يمكنه أن يخلُص بمفرده، الانطلاق مجددا من فيروس كورونا لكي نرسم معا دروب السلام"، والتي تعد دعوة لكي نبقى يقظين، ولكي لا ننغلق في الخوف أو الألم أو الاستسلام للتلهِّي، ولكي لا تثبط عزيمتنا، وإنما لكي نكون مثل رقباء قادرين على السهر ورؤية أنوار الفجر الأول، لا سيما في الساعات الأكثر ظلاما.
عشية الكريسماس، تبدو البشرية في حالة جفاف روحي، وعطش إنساني للسلام والوئام، للتصالح والتسامح، وبخاصة في ظل تعاظم التهديدات ما بين البشر وبعضهم، أو حتى من جانب الطبيعة تجاه البشرية.
ليس غريبا أن يعاود فرنسيس الحديث عن فيروس كوفيد-19 الشائه في مقدم رسالته، إذ يعود يضرب من جديد في القارة الأوروبية، والتي تعاني أوقاتا عصيبة.
في رسالته المهمة، يرى فرنسيس أنه بعد ثلاث سنوات حان الوقت لكي نأخذ بعض الوقت ونسأل أنفسنا ونتعلم ونسمح بأن نتحول كأفراد وجماعات، فإما أن نخرج معا من قلب المحنة، أو نعاني مرة جديدة معا.
ولعله من المثير جدا، وفي أوقات يكابد فيها البشر أزماتٍ اقتصادية، وصحوة دعوات عنصرية، قومية وشوفينية، أن يتحدث فرنسيس، الفقير وراء جدران الفاتيكان، عن علامات الحياة والرجاء التي يمكننا أن نراها، والتي تساعدنا لكي نمضي قدما ونسعى لكي نجعل عالمنا أفضل.
لقد لمست الإنسانية مقدار الهشاشة، التي تُميز الواقع البشري وحياتنا الخاصة، ولهذا يقطع الرجل ذو الثوب الأبيض بأن أعظم درس تركه لنا فيروس كورونا كإرث هو الإدراك بأننا جميعا بحاجة إلى بعضنا، وأن أعظم كنز لدينا، وإن كان الأكثر هشاشة، هو الأخوة البشرية.
أفرزت الأزمة خلال الأعوام الثلاثة الماضية واقعا جديدا، مؤلما في غالب الأمر، وفي المقدمة منه أن الثقة، التي وضعتها البشرية بالتقدم والتكنولوجيا وآثار العولمة، لم تكن مفرطة فحسب، بل تحولت أيضا إلى تسمُّم فردي ووثني، يقوّض الضمان المنشود للعدالة والوئام والسلام.
في رسالته للسلام لهذا العام، يمكننا القول إن الحبر الروماني الأعظم لا ينفك يحذر من فكرة "الضمانات الزائفة "، تلك التي استندت إليها البشرية طوال العقود الأخيرة، لا سيما التي تغيرت فيها مشاهد القطبية الدولية، وانفردت قوة بعينها بمقدرات العالم، معتبرة أنه نظام عالمي جديد، في حين أن الحقيقة لا تتعدّى اختلالا عالميا مؤكدا، وها هو الحال يغني عن السؤال، فالفقر والتهميش والصراعات العرقية ومخاوف الحرب العالمية هي نتيجة غياب رؤية عالمية إنسانوية تعطي مسارب من الأمل في غد أفضل.
يشدد فرنسيس على أنه قد حان الوقت الذي تضع فيه جميع شعوب الأرض كلمة "معا" في المحور مرة أخرى.
"معا" عنده تعني المزيد من التضامن، وبناء السلام، وضمان العدالة، والتغلب على أكثر الأحداث إيلاما.
تُحيلنا كلمات اليوم العالمي للسلام إلى واقع عاشته بعض الدول والمؤسسات خلال الجائحة، والتي جعلت "معا" عُمقَ أعماق حوارها وجوارها مع الآخر، فمن قلب المحبة التي أظهرتها للآخرين نشأ السلام الأخوي المتجرد الذي ساعد في التغلب على تلك الأزمة القاسية.
كان من الطبيعي أن يفرد فرنسيس في رسالته مكانا واضحا لجرح كبير نازف في الجسد البشري، أي أزمة الحرب الروسية-الأوكرانية، وهو الذي حاول، ولا يزال، لعب دور في وقف إطلاق النار بها، والبحث عن دروب للسلام بين الشعبين القريبين جغرافيا وديموغرافيا.
في تقدير بابا روما أن الحرب الأوكرانية لم تؤثر في سكان الدولتين السلافيتين فحسب، وإنما انتشر الأثر سيئ الذكر لها في كثير من شعوب العالم، التي باتت فريسة لارتفاع أسعار الغذاء والدواء والكساء، من جراء تصاعد نقص الحبوب في العالم، وقطع سلاسل الإمداد الغذائية، ناهيك بارتفاع أسعار الطاقة.
لن يخرج طرف من الطرفين مهزوما، يرى فرنسيس، بل البشرية برمتها هي من سيدفع ثمن الهزيمة وغياب السلام عبر تلك الأزمة، ما لم يوجد لها حل سريع.
نعم، لا يملك فرنسيس فرقا عسكرية لتغيير العالم، لكنه قابض على الأمل والرجاء والمحبة، طريق السلام المؤكد، والذي يمضي فيه كصانع سلام.
ميلاد مجيد لكل البشرية ملؤه السلام والأمل والمسرّات على الأرض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة