منذ أيام، عادت طبول الحرب العالمية الثالثة لتقرع عبر تكهنات سياسية وإعلامية هنا وهناك. ومع الزيادة المطردة في بؤر التوتر حول العالم، يشعر المرء أن موعد هذه الكارثة الكونية قد اقترب أكثر من أي وقت مضى.
حتى نبوءات العرافين استدعيت لإضافة "مصداقية" على التوقعات بوقوع حرب عالمية في عام 2024، الذي يشهد انتخابات رئاسية في أمريكا وروسيا، وبرلمانية في بريطانيا والاتحاد الأوروبي وغيرها قائمة طويلة من الاستحقاقات في دول ستكون طرفا في الحرب المرتقبة إذا ما وقعت "مصادفة" أو "حماقة".
ثمة احتمالان للحرب العالمية، فإما أن يشعلها واحد ممن يمتلكون "الزر الأحمر" الذي يفجر الأرض نوويا. أو تقرر دولة ما قلب الطاولة على العالم عبر مهاجمة جارتها فجأة، فينقسم الكوكب إلى جبهتين متصارعتين.
المتهمة الأولى بإشعال الحرب العالمية الثالثة هي روسيا. هذا ما يردده كثيرون على مسامعنا منذ عامين. يقولون إنها تعد العدة لذلك منذ أن «غزت» أوكرانيا في شهر فبراير/شباط 2022، لكن هل حاجة موسكو لهذه الخطوة لا تزال قائمة بعد أن تراجع الدعم الغربي لكييف إلى حد بات عنده الأوكرانيون يتسولون القذائف المدفعية، ويبكون نقص صواريخ الدفاع الجوي، ويخلون قرى يتقدم نحوها الروس في الشرق؟
ربما يستخدم بوتين النووي ضد بريطانيا التي وقعت اتفاقا أمنيا خاصا مع أوكرانيا مؤخرا. أو ربما يقرر قصف فنلندا أو السويد لأنها أضحت حدود حلف الناتو غرب روسيا. أو لعله يدفع بيلاروسيا إلى إطلاق أحد الصواريخ النووية التي أرسلها لها العام الماضي باتجاه ألمانيا لأنها تخلت عن خطوط الغاز الروسية. أو ربما يضرب كندا لحماسها في دعم كييف، وقرارها بمنع وصول التقنية الحديثة إلى موسكو.
إذا لم تكن روسيا فهم حلفاؤها. فرئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، لا يطيق صبرا للضغط على زره النووي ونسف الولايات المتحدة من خارطة العالم. يحتاج فقط إلى إشارة من روسيا أو ربما الصين التي تحتل المرتبة الثالثة على قائمة المستعدين لإشعال الحرب العالمية الثالثة. وخاصة بعد أن ظفر خصوم بكين في تايوان بولاية رئاسية جديدة، وتعهدوا بإبقاء نوافذهم مشرعة لرياح "الاستقلال" الأمريكية.
بعد الصين تأتي إيران في قائمة المتهمين بالإعداد للحرب العالمية الثالثة. فهي تشعر بالغرب يضيق على وكلائها وميليشياتها في المنطقة، لينقض بعدها على طهران. لذا يستعد الحرس الثوري لقصف إسرائيل بقنبلته النووية التي ستنجز خلال 38 يوما، وفقا للمرشح الجمهوري ورئيس أمريكا السابق دونالد ترامب.
قد تستبق إسرائيل الضربة الإيرانية، وتطلق واحدة من قنابلها المخبأة إن شعرت بخطر وجودي يهددها. لم تكن الفكرة مستبعدة بالنسبة لوزير التراث عميحاي إلياهو، خلال الحرب الدائرة في قطاع غزة منذ 110 أيام. ولا أحد يعلم كم من "فرسان" اليمين المتطرف في تل أبيب يفكرون بذات طريقة الوزير.
هناك الهند وباكستان أيضا على قائمة الدول النووية إن كانت الحرب العالمية الثالثة ستعتمد على هذه الأسلحة. فبين الجارتين "ما صنع الحداد". ولكل منهما خصوم يمكن التعامل معهم نوويا إذا استدعت الحاجة إلى ذلك.
بالنسبة لدول الغرب فلا يُتوقع منها استخدام "النووي" إلا في الردع والدفاع عن النفس فقط. صحيح أن الولايات المتحدة كانت أول من استخدم هذه الأسلحة في التاريخ، لكنها لا تهدد بذلك صراحة اليوم كما يفعل غيرها.
إذا استبعدنا فرضية المواجهة النووية، فيمكن التفكير بأشكال أخرى للحرب العالمية الثالثة. كأن تتشكل عبر عدة جبهات مشتعلة بين حلفاء أمريكا وخصومها حول العالم. ثمة واحدة تفجرت قبل عامين في أوروبا. واليوم هناك واحدة تتسع شيئا فشيئا في الشرق الأوسط، وغدا قد تظهر ثالثة شرق أسيا. ثم تثور بعدها براكين بقيت خامدة لسنوات، أو تشتعل حرائق نثرت أيادي خفية جمرها الخبيث ليهب لاحقا.
هذه الحرب يصعب نشوبها عبر حادثة اغتيال عابرة كالتي تسببت بالحرب العالمية الأولى. ولن تكون استكمالا لمواجهة سابقة كما حال الحرب العالمية الثانية بالنسبة لسابقتها. هي فقط أول مواجهة بين أقطاب العالم في الألفية الثالثة، ولن تكون الأخيرة إذا لم يعرف البشر عدوا من غير جنسهم، أو غزاة من كوكب آخر.
حصيلة "حرب الجبهات" قد تكون أكثر دموية من المواجهة النووية، لكنها لن تفني البشرية أو تقضي على الأرض. ستستمر لعقود طويلة، لكن سيخرج منها منتصرون ومهزومون في نهاية المطاف. وكما تظهر تجارب التاريخ الكثيرة، سيعيش العالم بعد الحرب العالمية الثالثة أوهام سلام لفترة من الزمن، قبل أن تأتي حرب رابعة وخامسة وسادسة أيضا، طالما أن العلاقات الدولية تقوم على القوة أولا.
الحروب العظمى لا تأتي من فراغ، بل تنمو ظروفها بهدوء فوق متغيرات وتبدلات القوى الكبرى لعقود من الزمن. وكل ما عرفته البشرية من تحولات في ظل حكم القطب الواحد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، هيأ المناخ المناسب لحرب عالمية ثالثة يقول ترامب إنه سوف يمنع وقوعها إن عاد مجددا إلى البيت الأبيض.
يؤمن ترامب بتهدئة الجبهات المشتعلة لمنع وقوع حرب عالمية ثالثة. وهو بهذا يحاول تطبيق نظرية المستشار المؤسس لجمهورية ألمانيا الاتحادية كونراد أديناور، الذي يقول "إن التاريخ حصيلة جملة أشياء كان يمكن تفاديها". لكن المشكلة أن تلك الحرب قد بدأت فعلا مع غزو روسيا لأوكرانيا. وسواء كان ذلك الفعل قد تم بتحريض مبطن من الغرب، أو بقرار فردي من بوتين، فإن العودة عنه لم تعد ممكنة.
حتى الرئيس الروسي نفسه الذي أشعل الجبهة الأولى في الحرب العالمية الثالثة، لا يستطيع الرجوع عن خطوته وليس بوسعه منع انتشار تداعياتها شرقا وغربا. لم نعد ننتظر الرصاصة الأولى، بل نراقب فقط أين تمضي بعد أوكرانيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة