في هذا العام استمرت الثورة العلمية والتكنولوجية في ارتياد آفاق جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي.
لم يكن عام 2019 الذي تنتهي به الحقبة الثانية من القرن الحادي والعشرين متميزًا بأي حال بل كان استمرارًا للتوجهات التي شهدتها تلك الحقبة، وعبرت أحداثه الكبرى عن حالة "الاضطراب" التي يشهدها العالم واختلال موازين النفوذ والتأثير بسبب انتقال عناصر القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق وفي قلبه الصين، واستمرار القوة العسكرية في يد الغرب وفي قلبه الولايات المُتحدة الأمريكية، وأدى هذا الاختلال بين توزيع القوتين الاقتصادية والعسكرية إلى حالة من عدم التوازن العالمي، وأدى بالرئيس ترامب إلى أن يتبع سياسات مواجهة وضغط وأحيانًا "ابتزاز" مع الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء، وذلك لاستعادة والحفاظ على الموقع القيادي المتميز لبلاده على قمة النظام العالمي، وأدى ذلك إلى دخول الولايات المُتحدة في عديد من الأزمات في عام 2019. ويُمكن وصف أهم ما حدث في هذا العام تحت عناوين الأزمات والحروب والانتفاضات.
أما عن الأزمات فأُشيرُ بها إلى تلك المواجهات السياسية الطاحنة التي اشتبكت فيها الولايات المتحدة مع دولة أخرى دون أن تصل الأزمة إلى الوقوع في براثن الحرب وبينما استخدم أطرافُها أشد العبارات وأغلظها ووصلوا بالأزمات إلى حافة الهاوية فإنهم حرصوا على عدم تحولها إلى حرب. ومن أمثلة ذلك، الأزمة بين أمريكا وإيران والتي شهدت تهديدات متبادلة، ودعوة واشنطن لمؤتمر دولي في وارسو وإلى تحالفٍ عالمي بحري لحماية المرور في الخليج العربي. ومنها الأزمة بين أمريكا وكوريا الشمالية فبعد أكثر من لقاءٍ بين زعيمي البلدين فإن الخلاف ظل مُستمرًا ولم يتم تفكيك الترسانة المُسلحة لكوريا الشمالية، وهدد ترامب أنه يُمكنُ أن "يبيد" هذه الدولة عن بكرة أبيها وردت بيونج يانج بأن لديها أسلحة تصلُ إلى العُمق الأمريكي. ومنها الأزمة بين أمريكا وفنزويلا وتشجيع واشنطن لزعيم المُعارضة إلى إعلان نفسه رئيسًا للجمهورية وفرضت حصارًا على فنزويلا، واتهمت مادورا بأنه رئيس غير دستوري يحكمُ بالحديد والنار. وفي الحالات الثلاثة تجنبت كُل أطراف الأزمة الدخول في صراعٍ مُسلح لإدراكها الثمن الباهظ لمثل هذا الإجراء.
في هذا العام، استمرت الثورة العلمية والتكنولوجية في ارتياد أفاقُ جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي وأثمرت سياسات التعليم والصحة والبنية التحتية عن نتائج إيجابية فارتفع مُستوى معيشة الملايين من البشر وزادت أعمارهم وقلت أعداد الفُقراء وغير ذلك من مؤشراتٍ إيجابية
وبخصوص الحروب، فقد استمرت على وتيرتها في سوريا وليبيا واليمن دون تطور نوعي أو تحول كيفي في مسارها ما دفع بالرئيس ترامب إلى القول إنها حروب تبدو وكأنها لا نهاية لها وأن الولايات المُتحدة لن تُشارك فيها إلا في أضيق الحدود وبشرط أن يكون دفاعًا عن مصالح أمريكية واضحة ومُحددة. في سوريا تظهر الأمور وكأن الكفة تميلُ إلى صالح النظام الذي يضربُ الآن بالتعاون مع روسيا المعقل الأخير للمُعارضة في إدلب، واستمرت التدخلات العسكرية التركية في الأراضي السورية ولوحت في نهاية ديسمبر باستعدادها لإرسال قواتها لدعم حكومة السراج في ليبيا هذا في الوقت الي أحكم الجيش الليبي بقيادة اللواء حفتر حصاره على المدينة، والحرب في اليمن بين الحكومة الشرعية وحلفائها والحوثيين، ورُبما باستثناء سوريا لم يحدُثُ نُقطة تحول في الصراع واستمرت أزمة ملايين النازحين واللاجئين في داخل سوريا وفي لُبنان والأردن وتُركيا، واستمرت التحذيرات الأممية من خطر المجاعات وانتشار الامراض في اليمن ومن تفشي نشاط عصابات الاتجار بالبشر في ليبيا.
كما استمرت العمليات العسكرية بين حماس وإسرائيل حتى صدور القرار الفلسطيني من عِدة أيام بوقف مسيرات العودة على حدود قطاع غزة مع إسرائيل. وقامت إسرائيل بعدد من الهجمات العسكرية في سوريا وفلسطين والعراق، وهو الأمر الذي كشفت عنه إسرائيل في شهر ديسمبر، واستمرت العمليات العسكرية بهدف محاربة التنظيمات الإرهابية، فرغمَ الهزيمة التي تلقاها تنظيم داعش في سوريا والعراق إلا أن عدد من خلاياه وقواعده ظلت قائمة في البلدين وامتد نشاطه إلى القارة الأفريقية وخصوصًا دول الساحل، واستمر وجود تنظيم القاعدة في اليمن وبعض الأماكن الأُخرى إلى جانب عديد من التنظيمات الإرهابية الاخرى مما يجعل خطر الأنشطة الإرهابية ما زال حاضرًا وماثلًا، وفي القارة الآسيوية، استمرت الحرب في أفغانستان بين كرٍ وفَر، وبدأت المفاوضات بين أمريكا وطالبان ثُم التوقف عنها ثم العودة إليها مرة ثانية. وانفجر الصراع على الحدود بين الهند وباكستان بعد قيام الأولى بتغيير الوضع القانوني لكشمير الذي استمر لأكثر من 70 سنة وضمها إليها. واستمرت مأساة اللاجئين الروهينجا الهاربين من ميانمار إلى بنجلاديش.
أما عن الانتفاضات الشعبية، فقد كانت على خلاف الأزمات والحروب سِمة مُميزًة لعام 2019 الذي شهد هبات جماهيرية في أنحاء المعمورة من هونج كونج، إلى فرنسا، إلى تشيلي وكولومبيا، إلى العراق ولبنان والسودان والجزائر، والتي اتسمت عمومًا بغلبة مُشاركة الشباب والطابع السلمي والنزول إلى الشوارع والميادين للضغط على الحكومات لتحقيق مطالبها. وبالطبع، اختلفت حظوظ هذه الانتفاضات من بلدٍ لآخر ما بين البعض الذي حقق أهدافه كالحال في السودان، أو وصل إلى نهاية دستورية كالحال في الجزائر، أو الذي ظَل في مكانه بسبب موقف النخبة الحاكمة كالحال في لُبنان والعراق. وفي فرنسا بدأ العام بمظاهرات السترات الصفراء، والتي ضعف نشاطها بمرور الشهور ولكن مع نهاية العام اندلعت مظاهرات أخرى بسبب رغبة الحكومة في تعديل قوانين التقاعد والمعاشات.
وعلى مستوى التطورات الداخلية التي طرحت تأثيراتها الخارجية كانت تلك التي ارتبطت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والدعوة لانتخابات مُبكرة فاز فيها حزب المحافظين وتداعيات إعلان المُستشارة الألمانية ميركل اعتزالها العمل السياسي وقرار مجلس النواب الأمريكي بالتصويت على عزل الرئيس وهي المرة الثالثة التي يُتخذ فيها مثل هذا القرار في التاريخ الأمريكي.
ليس في أغلب هذه الأحداث ما يدعو إلى الفرح أو يجلبُ البهجة على النفوس، وهي تُشيرُ إلى الجوانب السياسية في داخل الدول أو في العلاقات بينها، ولكن هذا الوصف لا يُقدمُ صورة ما حدث في العالم في عام 2019 بشكلٍ كامِل، ففي هذا العام، استمرت الثورة العلمية والتكنولوجية في ارتياد أفاقُ جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي وأثمرت سياسات التعليم والصحة والبنية التحتية عن نتائج إيجابية فارتفع مُستوى معيشة الملايين من البشر وزادت أعمارهم وقلت أعداد الفُقراء، وغير ذلك من مؤشراتٍ إيجابية تكتمل بها صورة ما يحدثُ في العالم. وصدر مؤخرًا تقريرُ من البنك الدولي يُلخص فيه هذه التحولات الإيجابية النوعية في حياة البشر ولنا عودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة