من الطبيعي أيضا سياسيا أن تنشأ اختلافات سياسية داخل منظومة إقليمية تمثل مصلحة مشتركة بين أعضائها.
نشاط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحماسه في تمدده المتهور داخل الدول العربية الذي بدأ منذ عام 2011 أيام ما كان يعرف بـ"الربيع العربي" حتى وصل أخطره في ليبيا هذه الأيام التي بدأ يرسل إليها مليشيات المرتزقة التي كانت تقاتل مع جيشه في سوريا بهدف تعميق الأزمة الليبية؛ ما يؤدي إلى تهديد مصر مباشرة، هذا النشاط ينبغي أن يدفع بالدول العربية دون استثناء إلى شعور قوي نحو الرغبة في إحياء الدور السياسي وحتى الدفاعي لها إن تطلب الأمر؛ لأنها باتت في تماس حقيقي مع الأمن العربي.
من الطبيعي أيضا، سياسيا، أن تنشأ اختلافات سياسية داخل منظومة إقليمية تمثل مصلحة مشتركة بين أعضائها لكن ليس بالطريقة التي تدفع إلى التعاون مع أنظمة تسعى إلى تمزيق الدول العربية؛ فالمشروعات السياسية التي تستهدف الدول العربية تحتاج من قادتها إلى تعاون بما يحافظ عليها ويضع حدا لحالة التمدد فيها.
اللحظة التي تمر بها العلاقات العربية مع بعضها تُعَد فارقة في تاريخها وتؤثر سلبا على طبيعة العمل المشترك؛ حيث لم تكن رؤية الدول العربية متباعدة لدرجة أنه تجاوز حدود التوقع بما يمكن أن يحدث من بعض دولها من ناحية أنها تتعاون مع دول تُعَد عدوة سياسيا مع شقيقاتها، ومع ذلك لا تجد تلك الدول حرجا من نفسها ولا تشعر بالقلق أو الارتباك مما سيحفظه التاريخ الذي سيقف يوما شاهدا على أنها أسهمت في تدمير أمن العرب. وتتمثل حاجة العرب حاليا إلى إحياء دورهم الإقليمي في أن مشروع أردوغان التوسعي قابل للتمدد في دول الجوار الليبي، وإلا سيكبر الأمر، خاصة أن أردوغان يملك ما يغري قادة تلك الدول من الاستثمارات.
تزداد تلك الحاجة في أن الخطر التركي في تهديد أمن أغلب دول المغرب العربي ويقترب من حدود دول المشرق العربي؛ فأردوغان يعمل على إثارة الرأي العام العالمي ضد السعودية ويسعى من خلال محاولاته في شق التحالف الإسلامي إلى عقد تحالفات جانبية لزعزعة الموقف السعودي كما أن يشن حملة إعلامية وقحة ضد دولة الإمارات التي وقفت في وجه أذرعها السياسية في الدول العربية المتمثلة في تيارات الإخوان المسلمين والإسلام السياسي عموما، كما أنه بتدخله السافر في سوريا وتوقيعه اتفاقية دفاعية مع حكومة فايز السراج في ليبيا يكون قد تجاوز المحظور حسب التفاهمات السياسية المتعارف عليها بين الدول، واللافت في كل هذا السعي أن هناك نشاطا كثيفا من التدخلات التي يبذلها هو وفريقه من المخططين والتي بينت كثيرا من تفاصيل نواياه تجاه العالم العربي خاصة في عملية نقل المرتزقة من المقاتلين من سوريا إلى دولة هي بعيدة عن حدودها الجغرافية في إشارة إلى عدوان صريح؛ ما يعني أن الجرأة التي يمتلكها أردوغان لن تقتصر على ليبيا إن لم يتم وضع حد لها بموقف عربي جماعي صريح وعلني.
إن حجم التحديات وعظم تأثيراتها السلبية التي ازدادت في السنوات الأخيرة بسبب فقدان الحد الأدنى من التوافق والفهم المشترك حول الأطماع التي تهددهم ليس اقتصاديا وسياسيا فقط، وإنما الوجود العربي نفسه كما هو الأمر في دولة العراق التي يدفع شعبها الآن ثمنا غاليا من أجل استرجاع وطنه ولبنان أيضا، يستوجب وقفة بسيطة من العرب لمراجعة النفس ومن قبل الحكومات التي باتت أداة ومعولا في يد أردوغان والمرشد الأعلى في إيران لتهديد وهدم العمل العربي المشترك.
وليس مطلوبا أن يتوافر "الإجماع" أو اليقين الكامل بشأن رؤية مشتركة لتحديات العرب مع أن هذا هو الأصل الذي يفترض في طبيعة العلاقات العربية-العربية؛ لأن المساحة الجغرافية التي تربط هذه الدول مترابطة وعرقها واحد مهما اختلفت التفاصيل، ولكن لأننا (العرب) جميعا أمام واقع استراتيجي لا نملك أمامه الاستمرار في تجاهله والتراجع عن أهمية التنسيق السياسي بيننا لأسباب عاطفية؛ لأن الذي يستهدف الدول العربية خطر كبير ويحتاج إلى تجاوز الاختلافات.
من الطبيعي أن تبقى كل دول الجوار العربي تعمل على إثارة الوقيعة بين صفوف الدول العربية من أجل تطبيق النظرية السياسية التقليدية المعروفة "فرق تسد" والتي نجحت بكل أسف مع بعض الدول العربية وتسببت في وجود نفوذ سياسي لها. ومن الطبيعي أيضا، سياسيا، أن تنشأ اختلافات سياسية داخل منظومة إقليمية تمثل مصلحة مشتركة بين أعضائها لكن ليس بالطريقة التي تدفع إلى التعاون مع أنظمة تسعى إلى تمزيق الدول العربية؛ فالمشروعات السياسية التي تستهدف الدول العربية تحتاج من قادتها إلى تعاون بما يحافظ عليها ويضع حدا لحالة التمدد فيها.
ما سبق يعني أن أردوغان يسعى إلى تثبيت أقدام بلاده في الدول العربية ويختار دولا معينة ضعيفة في قراراتها كي يستغلها ليضغط على دول أخرى تمثل عقبة له في مشروعه التوسعي؛ ففي منطقة الخليج اختار دولة قطر للضغط على السعودية ودولة الإمارات، وفي المغرب العربي اختار حكومة السراج في ليبيا للضغط على مصر؛ لذا يتطلب هذا الظرف من العرب ترتيب أولويات الأمن القومي العربي قبل أن نجد تركيا تهيمن على دول بأكملها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة