لم أكن أعرف "ماتياس إينار" حين اتصل بي قبل ثماني سنوات من برشلونة، هذا الروائي الفرنسي الذي فاز اليوم بجائزة غونكور،
لم أكن أعرف "ماتياس إينار" حين اتصل بي قبل ثماني سنوات من برشلونة، متحدثًا معي بعربية لا تشبه تلك التي ينطق بها المستعربون، إذ بدت هكذا مثلما نتكلم نحن بألسنتنا، هذا الروائي الفرنسي الذي فاز اليوم بجائزة غونكور، أعرق المكافآت الأدبية الفرنسية، يعيش في عاصمة "كاتالونيا" الإسبانية، ويدرِّس في جامعتها، ويظل مع ذلك حاضرًا في باريس، لا يفوت الفرصة ليكون في بيروت مرات عدة، ثم أنه سيخبرني فيما بعد أنه عاش في دمشق سنوات عديدة، وتجول أيضًا في بلدان شمال أفريقيا ومصر.
يقول لي: "لكنني أتحدث الفارسية أيضًا، زرت إيران مرات عدة، وتعرضت كل مرة للتوقيف من قبل الشرطة".
إينار الشغوف بشعر جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي ليس مستشرقًا على النحو الكلاسيكي للكلمة، ليس باحثاً في الاجتماع والسياسة ولا هو عالم آثار، إنه روائي يسعى لفهم "الوضع البشري". يكتب نصوصه من وحي التلاقي العميق بين الثقافات، يقول: "حاولت في رواياتي إعادة بناء هذا التاريخ الطويل، تاريخ حب الشرق والشغف به من دون إغفال العنف والتراجيديا".
في العام 2012 يأتي إلى بيروت ليكون ضيفًا بارزًا في معرض الكتاب الفرنسي السنوي، وينال حينها جائزة "لائحة غونكور ـ خيار الشرق" عن روايته "شارع اللصوص"، وها هو في العام 2015، يعود إلى بيروت للمناسبة نفسها، ألتقيه في الليلة ذاتها، بعد ذيوع الخبر الآتي من باريس، بأن لجنة "غونكور" أعلنت لائحة المرشحين لجائزتها الأدبية، الأرفع شأنًا في فرنسا، وكان ماتياس من ضمنها عن روايته الجديدة "بوصلة".
هذه الرواية ثقافية الموضوع بامتياز، إنها إعادة رسم لشخصية "المستشرق" بعيدًا عن صورة "المستعمر"، لكنها أولًا هي إعادة اعتبار للشرق نفسه في لحظة يبدو فيها أرضًا للفوضى والجهل والتعصب، يحاول إينار من خلال سرد رحلة بطله عبر الشرق اكتشاف الكنوز المعرفية، خصوصًا تلك الصلات العميقة بين الموسيقى الشرقية والغربية، بهذا المعنى هو يضرب على الوتر الحساس في السجال الثقافي الفرنسي، المهجوس بالإسلام الجهادي بالعنف التكفيري، وبمعنى آخر، أي في سياق النتاج الروائي الفرنسي تبدو "بوصلة" وكأنها رد على رواية "خضوع" لميشال هولبيك، التي صدرت في اليوم نفسه الذي حدث فيه الاعتداء الدموي على مجلة "تشارلي إيبدو". رواية "هولبيك" الحافلة برهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) ترى أن المسلمين "يغزون" الحضارة الأوروبية. وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي واجهته، إلا أنها كانت من الروايات الأكثر مبيعًا في العام الماضي.
وليس غريبًا أيضًا أن تقرر لجنة جائزة "غونكور" إعلان اللائحة النهائية للمرشحين للفوز بجائزة هذا العام، من "متحف باردو" في العاصمة تونس، (الذي استهدفه هجوم إرهابي في آذار/ مارس الماضي)، إذ قال رئيس اللجنة "برنار بيفو" أن اختيار هذا المكان يشكل عملاً "رمزيًّا" و"ديموقراطيًّا": إن أكاديمية غونكور أرادت أن تقول للتونسيين: "اثبتوا! فمبادئ حرية الفكر والكتابة والتعبير أساسية".
وحول اختيار تونس لأول مرة خارج فرنسا للكشف عن اللائحة النهائية لهذه الجائزة، قال "بيفو": "نحن حساسون جدًّا إزاء الدول الأخرى الناطقة بالفرنسية، وحيث يتواجد الأدب الفرنسي، لقد ذهبنا إلى بيروت قبل سنتين، وها نحن اليوم في تونس في بلد وقع ضحية اعتداءين شنيعين مطلع السنة، ونحن هنا لنقول: "تشبثوا نحن معكم".
ربما لهذا السبب أيضًا كان اختيار رواية "ماتياس إينار" "بوصلة"، بالإضافة إلى التونسي "هادي قدور" عن روايته "المهيمنون"، والفرنسية "ناتالي أزولاي" عن روايتها "تيتوس لم تكن تحب بيرينس"، والإيطالي المولود في القاهرة توبي ناتان عن رواية "هذا البلد الذي يشبهك". ففرنسا الثقافية تريد أن تعلن إيمانها بالتلاقي وبالتعددية ونبذ كل تعصب، بل وتعلن أن الثقافة الفرنسية باتت متعددة الأعراق والجنسيات.
بهذا الهاجس الكبير كان الاهتمام الفرنسي الرسمي بـ"صالون الكتاب الفرنسي" ببيروت، في دورته الـ 22 (من 24 تشرين الأول/ أكتوبر وحتى أول تشرين الثاني/ نوفمبر) تحت عنوان معبّر "كتب حرة". هذا المعرض، بات موعدًا موسميًّا في العاصمة اللبنانية، لتؤكد الثقافة الفرنكوفونية حضورها القديم والمتجدد، رغم انحسار الفرنكوفونية اجتماعيًّا وسياسيًّا، واقتصارها على نخبة برجوازية متضائلة.
تولت السفارة الفرنسية بنفسها تنظيم المناسبة، بعدما كانت نقابة مستوردي الكتب هي المنظمة، يقول مدير "المعهد الفرنسي في بيروت" التابع للسفارة "أوريليان لوشوفالييه": نحن نسعى لإيجاد مساحة لحوار ثقافي سلمي، وأن نبعث برسالة انفتاح وصداقة، بوصفها تمثل معنى الفرنكوفونية.
بالطبع فإن الحدث الأهم الذي بات يتسم به هذا "الصالون" هو الإعلان للسنة الرابعة عن جائزة "غونكور-خيار الشرق"، فهذه الجائزة الفرنكوفونية الإقليمية التي حظيت منذ تأسيسها إلى اليوم بدعم أكاديمية "غونكور": "تعول في شكل أساسي على تشجيع طلاب الجامعات الأعضاء في الوكالة الفرنكوفونية للشرق الأوسط، الذين يقرأون بمؤازرة أساتذة لاختيار المؤلفات للجائزة".. فنشاطات الجائزة تسمح بالترويج للأدب الفرنكوفوني المعاصر في صفوف الطلاب عبر تشجيعهم على التمتع بالحس النقدي وممارسته، من خلال القراءة والنقاشات وصياغة النشرات الأدبية. وفي هذا الصدد قال "إيرفيه سابوران": إن هذه الجائزة هي تظاهرة أدبية تصبو إلى تعميم الأدب الفرنكوفوني الذي يعمم قيمًا ثقافية مشتركة بين عوالمه". ولفت إلى أن "تنظيم هذه الجائزة يعزز شغف القراءة لدى الجمهور الطالبي في الجامعة بدعم من أساتذتهم ومساندتهم فضلاً أنها تتخذ منحى إقليميًّا؛ لأن تعني مباشرة طلابًا من 20 جامعة منتشرة في 10 بلدان". يذكر أن هذه الدورة تشهد مشاركة بلدين جديدين هما الأردن وإيران!
ذهبت جائزة "غونكور/ خيار الشرق" للروائية الفرنسية "ناتالي أزولاي" عن روايتها "تيتوس لم يكن يحب بيرينيس" (صدرت عن منشورات POL)، والرواية مرشحة أصلاً لجائزة "غونكور" (الجائزة الأم) هذا العام، وهي رواية لا تخلو أيضًا من إيحاءات تاريخية للعلاقة الملتبسة بين الغرب القديم (روما) والشرق القديم (فلسطين) عبر قصة حب صعبة أو مستحيلة.
في أروقة المعرض، وطوال ثمانية أيام، لم تتوقف الندوات والمحاضرات وحفلات توقيع الكتب، واللقاءات الجانبية بين الكتّاب والناشرين، وهذا الدفق من طلاب المدارس الفرنكوفونية، الذين يأتون بتنظيم من إدارة مدارسهم.. لكن ومع ذلك، بدت تلك القاعة الفسيحة (البيال) المطلة على بحر بيروت، وكأنها بعيدة جدًّا عن واقع البلاد، حيث لا شيء يوحي بتلك الدعة الثقافية، طالما أن هاجس اللبنانيين اليوم ليس فقط أن لا تصلهم حرائق المشرق المنكوب، بل أن لا يغرقوا في نفايات منازلهم وشوارعهم على الأقل.
في ذاك المساء غادر ماتياس إينار إلى الجزائر، متابعًا تلك الرحلة الحقيقية على امتداد ضفاف المتوسط، مودعًا: سنلتقي في دمشق ذات يوم. هناك حيث يجب أن تكون الكتب حرة أيضًا.