"نوارة" منة شلبي ..البسطاء بين "حلم التغيير" و"واقع الفوضى"
في أولى مشاهد فيلم "نوارة"، تقتحم الكادر فتاة في مقتبل العمر، تحمل وعاءين خاويين، وتخترق بهما أزقة العشوائيات باتجاه أحد صنابير المياه.
في أولى مشاهد فيلم "نوارة"، تقتحم الكادر فتاة في مقتبل العمر، تحمل وعاءين خاويين، وتخترق بهما شوارع وأزقة العشوائيات، باتجاه أحد صنابير المياه العمومية، حيث تصطف النساء لتملأ أوعية المياه النظيفة.
هذه الفتاة ليست سوي "نوارة"، بطلة الفيلم المصري الذي يعكس بادرة صحوة سينمائية، تقدم نوعية مغايرة للأفلام التجارية، التي اكتسحت دور العرض المصرية في السنوات الأخيرة.
ورغم الاستهلال القادم من قلب العشوائيات، فإن الفيلم الذي يحمل اسم بطلته ليس فيلما عن العشوائيات، كما أنه ليس مقارنة، على الطريقة اليسارية أو الواقعية، بين عالمي الفقراء والأغنياء، إنما هو ببساطة فيلم عن البشر الحالمين بالتغيير، في مجتمع تصور في لحظة أطلقوا عليها "الربيع العربي" أنه قادر علي ذلك، وأن الرياح يمكن أحيانا أن تأتي بما تشتهيه السفن، ليفيقوا علي مرارة واقع أليم، وهو أن الثورة لم تحقق أي شئ سوي مزيد من الفوضي والفقر وتحكم الفساد .
البعد السياسي
لا يتبني "نوارة" موقفا سياسيا مؤيدا أو معارضا لـ "25 يناير" التي نراها في خلفية الأحداث عند بداياتها، إذ تبدو أقرب "للناريشن" أو التعليق ، وهي جزء من حلم الفقراء بالتغيير، حيث تركز أجهزة الإعلام علي استعادة المليارات المنهوبة من الخارج لرئيس الجمهورية المخلوع، وهو ما دفع "نوارة" وأشباهها من المطحونين للحلم بالحصول علي نصيب من هذه الثروة، والتي يروج البعض لأنها قد تصل لمائتي ألف جنيه لكل مواطن، كنوع من التجارة بأحلام البسطاء.
استعراض الحياة اليومية
في الفيلم، الذي كتب السيناريو والحوار له أيضا نفس المخرجة لينتمي قلبا وقالبا لسينما المؤلف، وعبر بناء محكم لحدوته تبدو بسيطة دون افتعال، نتابع رحلة "نوارة" الخادمة بقصر أحد الكبار علي أطراف المدينة، حيث المنتجعات المحاطة بالأسوار كالمستعمرات و"الكانتونات" وحمامات السباحة وكلاب الحراسة و"الكافيار" و"السيمون فيميه".
نتابع ،عبر الفيلم، نوارة في طريقها اليومي، تنتقل من مواصلة لأخري، تارة خلف "ميكروباص" أو "باص" يتراص فيه البشر بأعجوبة في رحلة تحايل يومية للعيش، قبل أن تعود في آخر النهار منهكة في "توك توك" يمكنه اختراق الحواري الضيقة الملتوية لتصل إلي منزلها البسيط، والذى تعيش فيه مع جدتها "توحة" البائسة التي تقترب من الانزواء، وتحلم بلقمة ورشفة ماء وكفن يسترها.
وعبر الرحلة اليومية، نلمح شعورا بالثقة العمياء من الأسرة الثرية في هذه الفتاة، فهي تمنحها مفاتيح المنزل، وتطالبها الابنة بإطعام الكلب الذي يسبب ذعرا شديدا لنوارة ولا تعرف كيف تقترب منه، حتي تضطر لذلك في لحظة شجاعة نادرة لها دلالتها حين تضطرها الظروف وتهجر الأسرة المنزل بسبب دعاوي الاعتقال وقتها، وتترك كل الأمور لنوارة .
علي الجانب الآخر، نجد "على"، زوج نوارة "مع وقف التنفيذ"، شاب نوبي أسمر يكافح بدوره بإصلاح الأجهزة الكهربائية، يحلم بفتح بيت مع نوارة ليعيشا تحت سقف واحد، ويتلاشى الحلم مع الثورة، وحالة الخوف التي انعكست علي العمل والتجارة اليومية، ونتابع محاولاته أن يخلو بها في المنزل الثرى الكبير، ثم سرقة نوارة لساعة وإعادتها بعد ذلك في لحظات ضعف إنساني أعقبتها صحوة ضمير، وهو مالا نراه مع كبار يسرقون المليارات كل يوم دون أن تصحو ضمائرهم.
بناء الشخصية
هنا يصل بناء شخصية نوارة في السيناريو إلى قمته ليتأكد واحدا من أهم ملامحها، فهي شخصية مخلصة بلا حدود للأسرة التي ائتمنتها علي بيتها، بل وهي تري بسذاجة مفرطة أنهم أناس طيبون لا يستحقون ما يحدث معهم .. وبعد أن تمنحها مخدومتها مبلغا مكافأة لزواجها قدره عشرون ألف جنيه، تأتي الشرطة لجرد الفيلا وتستولي من نوارة علي العشرون ألف جنيه اعتقادا أنها سرقتها لتسجن نوارة الوفية النبيلة المطحونة في رسالة لا يخطئها الفيلم، وهو أن مصير الأوفياء هو القتل أو السجن، بينما يظل الهاربون بالمليارات والفاسدون طلقاء خارج الأسوار .
بانوراما عرضية
يقدم الفيلم بناءً بانوراميا عرضيا لفترة من حياة مصر بصورة ملحمية هادئة، نجح في طرح الوجع بسلاسة فنية مدهشة.
فبين مشاهد الفيلم نجد المستشفيات المنهارة وحالة الفوضي والمرضي الذين لا يجدون سريرا إلا بأمر إمبراطورة التمريض تتحكم في الجميع بينما تضع الموبايل تحت طرحتها وتتحدث في أمور المحشي والطهي، وحولها المرضي يموتون أو ينامون في دورات المياه، حتي مشاهد علاقة نوارة بالكلب وتدرجها من الهلع للألفة تم إخراجها بشكل متقن،كذلك لقطات استعراض أوعية المياه في البداية، وتداخلها في الكادر وإيحاءاتها ،بل ومشاهد نبوءة "أسامة بيه" بأن الأمر سوف يأخذ وقته قبل أن "يخرج الجميع".
عناصر الفيلم
تفرض إضاءة مدير التصوير زكي عارف نفسها، وتبلور اللقطات بالإضاءة والظل والنور، لتقدم الطقس العام لأجواء فيلم يتحدث عن الفوضى والظلم والارتباك، خصوصا في أيام الثورة الأولي، ويجمع بين عالمين متناقضين أشد التناقض.
مونتاج مني ربيع شديد التدفق والتأمل، ليناسب إيقاع الفيلم وإن كانت مقاطع المستشفي تحتاج للكثير من الاختزال والتكثيف دون أن يؤثر ذلك في فهم الفيلم، والموسيقي التصويرية لليال وطفة ساحرة بالفعل ومتماهية نفسيا معه.
يبقي الأداء كواحد من أهم عناصر هذا العمل، بدءًا من منة شلبي في شخصية نوارة التي استحقت عنها جائزتين عن جدارة، إحداهما في دبي والثانية في تطوان، مرورا بمحمود حميدة أحد الكبار الفاسدين رغم طبعه اللطيف ولسانه المعسول، الذي يستشرف ما سيحدث بثقة متناهية، ثم أمير صلاح الدين الذي يكتسب ظهوره كشاب أسمر ينتمي للنوبة بعدا مهما أيضا في الأحداث بما يعكسه من انصهار المجتمع بعيدا عن محاولة استثمار تقسيمه التي تظهر بين الحين والآخر، وكذلك شيرين رضا التي تزداد نضجا وبهاءً، وبالطبع أحمد راتب ورجاء حسين صاحبا الخبرة الكبيرة في الأداء التمثيلي .
باختصار، نحن أمام فيلم متميز يجبر من يشاهده على الاستمتاع والتأمل، حتى وإن اختلف حول ثورة يناير وآثارها.
aXA6IDMuMTM1LjE5MC4yNDQg جزيرة ام اند امز