سيكون على تركيا وأوروبا أن تتوقف عند سلسلة التفجيرات التي كانت مدنُها وعواصمُها مسرحاً لها منذ مطلع عام 2015
سيكون على تركيا وأوروبا (فرنسا، بلجيكا، دول الاتحاد الأوروبي)، أن تتوقف عند سلسلة التفجيرات التي كانت مدنُها وعواصمُها مسرحاً لها منذ مطلع عام 2015. وسيكون عليها أن تسأل نفسها لماذا دفعت الثمن من أمنها وأرواح جنودها ومواطنيها، هل كانت سياسات حكوماتها حيال الجماعات المسلّحة المتطرفة، في سوريا والعراق وليبيا، مسؤولة عمّا تعرَّضت له، وما قد تتعرض له- هي وغيرها من البلدان- من عقاب دموي، أم إنّ ما جرى لها مستقل عن تلك السياسات، ومرتبط بصراع طبيعي بين الديمقراطيات والإرهاب...
الرواية الرسمية في هذه الدول، أنها مستهدفة من قوى الإرهاب، وضحية له في الآنِ عينِه، وأنّ سياساتها في المنطقة ليست سبباً فيما جرى. وهذه رواية سهلة جداً، ولا تكلّف حكومات تلك الدول شيئاً من التبعات أمام شعوبها، كما لا تخضعها للمساءلة في برلماناتها، فالمشكلة، عندها، في وجود إرهاب جائع إلى القتل في كلّ مكان في العالم، وليست المشكلةُ فيها هي، حيث لم تذهب إلى محاربته حيث يوجد، ولا انخرطت في أحلاف عسكرية دولية لمواجهته، وبعضُها- مثل فرنسا- لم يحرّك طائراته لضرب أهداف قوى الإرهاب في سوريا إلاّ بعد أن ضَرَبَهُ الإرهاب في عقر داره. وما أغنانا عن القول إنّ هذه الرواية ضعيفة الحجة، فهي تبريرية، من وجه، وهي فقيرة إلى التماسك، من وجه ثان، ومملوءة بالثغرات.
لم يأت الإرهاب إلى هذه البلدان من خارجها، وإنّما خرج من مدنها وأحيائها، ولم تكن حكومات هذه البلدان في حالة حرب مع الإرهاب - قبل اصطدامها به في داخلها- وإنما نسجت معه أوثق العلاقات في السنوات الماضية، ووفّرت له أشكالاً من الدعم مختلفة. مَن يملك إنكار حقيقة أنّ هذه الدول تدخّلت، بدرجات متفاوتة، في مشروع سياسيّ وعسكري لإسقاط أنظمة عربية بعينها، وبدعوى مساندة «ثورات» ما سمَّته بـ«الربيع العربي»، وأن ذلك التدخّل أتى متعدّد الأشكال والوجوه: من المساندة السياسية لقوى المعارضة («المجلس الوطني الليبي»، «المجلس الوطني السوري»، «الائتلاف الوطني السوري»، وتغطية عملها بتحالفات دولية («مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري» مثلاً)، إلى توفير الدعم العسكري للجماعات المسلحة («الجيش السوري الحرّ»،«جبهة النصرة»،«أحرار الشام»،«جيش الفتح»...)، إلى تقديم الدعم اللوجيستي والملاذ الآمن عبر تركيا...إلخ، ومن يملك إنكار حقيقة أن هذه الدول كانت تعرف، على التحقيق، أن القوى العسكرية الرئيسية، التي تتوسّلُها مطرقة لإسقاط الدولة والنظام في سوريا، ليست القوى «العلمانية»، وإنما الجماعات «الجهادية» و«التكفيرية المسلحة»، التي هي أكبر عائق أمام أيّ تحوُّل ديمقراطي في سوريا: من ذلك الذي تدّعي تلك الدول دعمه؟! ثم مَن يملك أن يُنكِر أنها تعرف شبكات للإسلاميين المتطرفين في بلادها، وأنها غَضَّتِ الطَّرْف عن تطوُّعهم للقتال في سورية والعراق وليبيا، وأن عودة هؤلاء- وهم قد جاوزا الخمسة آلاف مقاتل أوروبي باعتراف أجهزتها الأمنية- سترتّب على الأمن فيها مشكلات لا حصر لها؟!
على حكومات هذه الدول أن تتوقع أنّ ما حصل في فرنسا وبلجيكا، وما حصل ويحصل في تركيا، من هجمات القوى المتطرفة قد يكون مجرّد مقدّمة لِما هو آت، بعد أن قرَّر تنظيم «داعش» نقل عملياته من البلاد العربية إلى عمق أوروبا، وبعد أن عاد الكثير من مقاتليه، من مواطني الدول الأوروبية، إلى مَواطنهم التي أتوا منها، كما بعد نجاحه في تسليله لمقاتلين آخرين له إلى أوروبا عبر موجات هجرة اللاجئين السوريين والعراقيين إليها، كما تعترف بذلك المصادرُ الغربية نفسُها.
ولا أحد يستطيع أن يقدّر كيف سيكون عليه أمنُ هذه البلدان، وسواها من التي ساعدت الجماعات «الجهادية» المسلحة، بعد دخولها اليوم طرفاً في مواجهة تلك الجماعات، نزولاً عند التوافق الأمريكي ــ الروسي على محاربة الإرهاب في سوريا، وإعلانها المشاركة في استراتيجية المواجهة تلك. وإذا كانت تركيا تتعرض للهزات الأمنية أكثر من غيرها من بلدان أوروبا، بسبب تماسّــها الجغرافي مع مسارح الإرهاب في سوريا والعراق، وبسبب قمعها اليومي لمطالب الشعب الكردي فيها، وبسبب تأخُّرها في تقدير النتائج الكارثية إقليمياً لأيّ تعفُّن للأوضاع في سوريا أو تفتيت لكيانها، فإنّ تغيير بلدان أوروبا موقفَها من الجماعات الإرهابية - بعد صدامها معها- جاء متأخرًا جدًّا، بعد أن استفحل أمرُها، وباتت عصية على الاحتواء أو الاستيعاب، وبالتالي لا شيء يضمن ألا يتحوّل بعضُ تلك البلدان (الأوروبية) إلى مسارح جديدة لعمل الجماعات تلك.
الأوروبيون إذا كانوا يعتقدون أنه في وسعهم أن يوظفوا الإرهاب لمصلحتهم، ثم يتخلصوا منه متى شاؤوا، فقد أساؤوا التقدير، ذلك الحساب عينُه تحسبه قوى التطرف، فتتصرف مع القوى الغربية الداعمة بوصفها قابلة للتسخير السياسي إلى حين التمكين، وبعدها يصيبها ما يصيب غيرها من الأذى.. كلٌّ من الحليفيْن الغريمين ينظر إلى الآخر كمرتزق في جيشه قابل للسُّخرة. وهذه، حُكْماً، نظرة لا يتولَّد منها غيرُ الصدام، لأنها بكل بساطة، قائمة على غشّ متبادل.
في سيرة العلاقة بالإرهاب، لا يستفيد الغربيون من أخطائهم. يحصل للأوروبيين والأتراك، اليوم، ما حصل للأمريكيين أمس. أغدق الأخيرون على «المجاهدين الأفغان» من الدعم العسكري والاستخباري ما فاض عن حاجتهم. ولم يتورّع رئيسُهم آنئذ (رونالد ريغان) عن إطلاق وصف«أبطال الحرية»عليهم. وحين دخل«المجاهدون»في حربهم الأهلية، في سنوات التسعينات من القرن الماضي، وقامت حركة «طالبان» في وجههم، دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية معتبرة إياها قوّةَ استقرار. وحين انقلب تنظيم«القاعدة»على أولياء النعمة من الأمريكيين، بعد حرب الخليج، ووفّرت له «طالبان» الملاذ، فضرب أمريكا في عقر دارها، أدرك العقلاءُ فيها- وهُم قلّة- أنّ ما أصابها من الإرهاب، إنما كان من أخطاء إقامتها العلاقَة به. ومن حينها فتحت عليه الحرب التي لم تنته بعد. وها هم الأوروبيون يُلْدَغون من الجُحر عينِه، ها هو حليفهم في سوريا والعراق يَنْقَضّ عليهم في قلب أوروبا، ناقلاً المعركة إلى ديارهم مثلما نقلها-قبلهم-إلى الديار الأمريكية، كأنّ سوابقَ لم تكن فَيُتَعَظُ بدروسها ! كأن الغرب فَقَد ذاكرته السياسية والأمنية !كأنّ ترويض«داعش»، أهون من ترويض«القاعدة» وأضمن ! يمكن للمرء أن يفهم لماذا تنزلق تركيا«العدالة والتنمية» إلى هذا المطب، فإخفاق رهاناتها العثمانية ثم الإخوانية يفسّر سعيها في محالفة أيّ كان للثأر ممّن خرّبوا أحلامها الإمبراطورية. أمّا أوروبا فيُفتَرَض أنه كان في مُكْنها أن تمارس حساباً عقلانياً للأرباح والخسائر، فلا تقع في الحفرة عينها!.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة