ليس لدى شك فى أن الإصلاح الاقتصادى هو المدخل الصحيح لعلاج أهم مشكلاتنا، سواء الاجتماعى منها أو السياسى أو الثقافي
ليس لدى شك فى أن الإصلاح الاقتصادى هو المدخل الصحيح لعلاج أهم مشكلاتنا، سواء الاجتماعى منها أو السياسى أو الثقافي، يدفعنى إلى هذا الاعتقاد ثلاثة أمور: أولا ما نعرفه عن قوة الدوافع الاقتصادية لدى الإنسان، وشدة تأثير العجز عن إشباع الحاجات الاقتصادية فى سلوك الإنسان، بل وفى طريقة تفكيره، وثانيا، استقراء تجارب النجاح والفشل فى إحداث نهضة عامة فى مختلف الدول، غربية كانت أو شرقية، وثالثا، استقراء التاريخ المصرى نفسه، الحديث والقديم، إذ تقترن دائما النهضة الاجتماعية والثقافية بالتقدم الاقتصادي.
أعرف أن بعض القراء لديهم آراء مختلفة، البعض لا يحب أن يجعل الفكر تابعا للاقتصاد، ويكره أن يصور الإنسان على أنه أسير حاجاته المادية كالحيوان البهيم، ويفضل أن يتصور أن الإنسان قادر على إخضاع رغباته المادية لدوافع أسمى وأنبل، من هؤلاء من يرى أن المدخل إلى النهضة هو الإصلاح الفكري، وبعضهم يؤكد بالذات على ما يسمى تجديد الفكر الديني، فيعتبرون تدهور حالة الخطاب الدينى مسئولا عن مشكلات التطرف والإرهاب، مما يقف حجرة عثرة بالطبع فى طريق النهضة.
وجدت أيضا لدى كثيرين ممن يتعرضون لقضية النهضة فى مصر، تأكيدا على إصلاح التعليم، فيعتبرونه الشرط الضروري، أو المدخل الصحيح للنهوض بأحوال مصر عامة، إذ ما الذى يمكن أن يكون أفضل من الاهتمام بالنشء منذ نعومة أظفارهم، وتعهدهم بالإعداد الصحيح، عقليا ونفسيا، حتى يتسلموا هم مهمة النهضة بالوطن؟
لابد أن هناك أيضا من يعتقد أنه لا نهضة إلا بالنهوض بمركز المرأة فى المجتمع، إذ كيف تنهض أمة مازال نصفها خاضعا لاستبداد الرجل، يقيد حرية المرأة ويكمم فمها، ويحرمها من اتخاذ مواقف المبادرة والإبداع، بل وقد يطلب منها الاختفاء التام عن الوجود، وهى التى يناط بها تنشئة الأطفال وأن تغرس فيهم قيم الحرية واحترام النفس، والطموح إلى ما هو أفضل؟
هناك أيضا من يفضلون التأكيد على مشكلة الانفجار السكاني، وهو موقف قديم فى مصر يستند إلى حجة قوية، إذ يتساءل أصحاب هذا الموقف عن جدوى أى تنمية اقتصادية طالما وجد هذا الوحش السكانى المفترس، الذى يلتهم أولا بأول ما تنتجه البلاد من خيرات، فلا يسمح قط بالارتفاع فى مستوى المعيشة؟ لابد إذن أن نبدأ بالسيطرة على النمو السكانى قبل أن نأمل فى تحقيق أى تقدم اقتصادي.
لابد بالطبع أن نعترف بقوة هذه الحجج، ومع ذلك فأنا لا أجدها قادرة على تغيير الموقف الذى يعبر عنه عنوان المقال «الإصلاح الاقتصادى هو مفتاح النهضة فى مصر»، لقد ذكرت بعض الأسباب التى تجعلنى أقدم الإصلاح الاقتصادى على الإصلاح الفكري، ولدى مثال صارخ قد ينجح فى إقناع القارئ بموقفى منذ نحو سنتين قرأنا عن مدرسة منتقبة فى إحدى مدن الصعيد، قامت بتأنيب تلميذاتها، ممن لا يتجاوز عمرهن السابعة أو الثامنة، بسبب عدم ارتدائهن الحجاب، وأمرتهن بارتدائه ابتداء من الغد، فلما جاءت إحداهن فى الغد دون حجاب، جاءت المدرسة بمقص وقامت بقص شعر البنت الطويل عقابا لها، كانت الحادثة مأساوية ولا مبرر لها على الإطلاق، ولكن من المؤكد أيضا أن هذه المدرسة لا تحتاج إلى من يجدد لها فكرها، بل الى من يحل لها مشكلة أو مشكلات نفسية تعود على الأرجح الى ظروف اجتماعية واقتصادية، كضعف الراتب، أو تردى حالة المسكن، أو تبطل الزوج عن العمل..إلخ، وعلاج كل هذا يكون عن طريق الاقتصاد.
وهذا يقودنا مباشرة الى أن الاقتصاد هو أيضا المدخل الصحيح لإصلاح التعليم، فسواء كان تدهور التعليم عندنا راجعا الى ضعف المدرسين، وافتقادهم للقدرة أو الحافز على القيام بالأداء المطلوب، أو الى سوء الأحوال المادية للمدارس (أبنية وفصول ومكاتب وأدوات مدرسية)، أو قلة الإنفاق على البحث العلمي، أو عدم التوسع فى التعليم الفنى الأكثر كلفة..الخ، فالعلاج الأساسى (إن لم يكن الوحيد)، هو فى إصلاح الاقتصاد، أما عن النهوض بالمرأة، ففى أى بلد وأى عصر حققت المرأة الغربية أو الشرقية تقدما وحصلت على حقوقها المهدرة، دون أن يقترن ذلك بنهضة اقتصادية؟
بقيت مسألة الانفجار السكاني، وهى عقبة حقيقية فى طريق التقدم الاقتصادى وغير الاقتصادي، ولكنها مشكلة قد يكمن علاجها إما فى القوانين أو فى التقدم الاقتصادى نفسه، لا أظن أن كثيرين يمكن أن يعترضوا على إصدار قوانين تشجع على تخفيض معدل المواليد (دون أن تكون بقسوة القوانين الصينية، مثلا تعاقب الأسرة التى لها أكثر من طفل واحد)، كتأخير سن الزواج، أو إعطاء مختلف الحوافز المادية التى تكافئ الأسرة الصغيرة، ولكن كل هذا فى رأيى سيكون ضعيف الأثر، إن لم يحدث فى الوقت نفسه تقدم اقتصادي، بمعنى رفع مستوى المعيشة وحل مشكلة البطالة، نعم، إن تخفيض معدل المواليد سيسهم بلا شك فى رفع مستوى المعيشة وتخفيض عبء البطالة، ولكن تعليق الآمال فى تخفيض معدل المواليد على مجرد إصدار القوانين دون أن يقترن هذا بتغيير فى أحوال الناس الاقتصادية، لابد أن ينتهى فى رأيى إلى خيبة هذه الآمال، إن سلوك الناس، فيما يتعلق بمعدل المواليد، كما هو فى غيرها (ما لم يكن فى ظل حكم ديكتاتورى بالغ القسوة) تحكمه حاجاتهم الحقيقية وليس رأى الحكام، كما يعبر عنه ما يصدرونه من قوانين، الناس تخفض معدل المواليد عندما تتحسن أحوالهم المعيشية، ويرون إمكان تحقيق حياة أفضل لأولادهم، فيفضلون ذلك على مجرد زيادة العدد، كما أن تحسن أحوالهم المعيشية، بما يؤدى إليه من تخفيض معدل الوفيات، يخفض من اعتمادهم على زيادة الأولاد لمواجهة ما يهددهم من خطر فقدهم، أو كمصدر للرزق فى شيخوختهم، العلاج الحقيقى لمشكلة الانفجار السكانى يكون إذن بتحقيق بعض التقدم الاقتصادي، هذا أقرب إلى الحقيقة من القول بعكس ذلك، أى من القول بأنه لا علاج للمشكلة الاقتصادية إلا بعلاج مشكلة السكان، ولحسن الحظ، كما تدلنا الخبرات التاريخية أنه مهما يكن معدل المواليد مرتفعا فإن من الممكن تحقيق بعض التقدم الاقتصادى بالرغم من ذلك، متى توافرت الإرادة والهمة.
الاصلاح الاقتصادى إذن هو مدخلنا إلى النهضة، وقد سبق لى أن أثرت فى مقالى السابق، التساؤل عن سبب فشلنا المتكرر فى تحقيق هذا الإصلاح الاقتصادى المنشود، طوال الخمسين عاما الماضية، المرة بعد المرة، وهذا هو ما أنوى تناوله فى مقالى المقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة