الشعب الأميركي عموماً أحد أكثر شعوب العالم تعرضا للاختطاف الذهني
الشعب الأميركي عموماً أحد أكثر شعوب العالم تعرضا للاختطاف الذهني، وهو بغير الصورة النمطية الحضارية التي تظهر في أفلام هوليوود، وإنما غالبيته بسطاء ومتسامحين وغير مشغولين أو مكترثين بما يجري في العالم الخارجي من حولهم، الى الحد الذي يظهر تواضعا معرفيا مدهشا في استيعابهم للجيوبولتيك السياسي الذي تتحرك فيه بلادهم. صورة الأميركي الذي يستوعب المجريات ويسهم في تغيير العالم مضللة وليست حقيقية، فهم يعرفون عموماً أن بلادهم أقوى دول العالم، لكن كيف؟ فهم لا يعرفون ذلك ولا يشغلون أنفسهم به، فساسة واشنطن والمنظمات المدنية والسياسية والميديا تقوم بكل التفاصيل وتتعامل معها بحيث لا يبقى من حضور سياسي للمواطن الأميركي إلا في صناديق الاقتراع لانتخابات الكونغرس بمجلسيه والرئيس، عدا ذلك يظل عقل هذا المواطن في ثلاجة ودوامة الحلم الأميركي. انتخاب واختيار سيناتور أو رئيس يخضع لضغط وسائل الإعلام والمنظمات، فهي التي تختار في الحقيقة وليس المواطن، ذلك يحدث بطريقة غير مباشرة من خلال التواصل الفعال مع المواطن وتغيير أو تحديد وتركيز قناعاته للاختيار، حتى حين تحارب أميركا عبر القارات فإن توافق أو رفض الأميركي العادي للحرب يأتي من خلال” الميديا” وليس المتابعة العقلية التي تستهدف اتخاذ موقف أو تشكيل رأي موضوعي. تلك الحقيقة بدت بوضوح في حرب العراق التي احتاجتها الولايات المتحدة الأميركية لأسباب لا علاقة لها بذلك المواطن في كاليفورنيا أو تكساس، وإنما لها علاقة بأباطرة النفط والمال واللوبي اليهودي من خلال منظمته العتيدة «إيباك»، وكثيرا ما يجلس المواطن الأميركي أمام التلفاز ليتلقى معلوماته ويبني مواقفه، ولذلك قال مايكل مور في كتابه «أين هي بلدي يا صاحبي؟» أن ذلك الذي يعتمد على الأخبار التلفزيونية كمصدر لمعلوماته كان معرضا للاستماع الى أراء مؤيدة للحرب بنسبة تفوق احتمال تعرضه لسماع رأي معارض لها بـ 25 ضعفا. ذلك الأسلوب هو الذي صعد بجورج دبليو بوش للرئاسة، ولم يكن في الأقيسة السياسية جديرا بها، ولكن انتخابات الرئاسة تظل احتمالات وخيارات ضيقة داخل الحزبين الكبيرين لتحديد مرشح وفقا لمعايير محددة وفق المرحلة التاريخية لأنه في نهاية المطاف لن يدير الدولة أو يمارس السلطة بمعزله وإنما لصالح آخرين هم أقل كفاءة سياسية منه، وهم مجموعة السيناتورات الذين يقبعون في مكاتب تحتشد بالخبراء والمستشارين الذين يحددون حتى لون البذلة وربطة العنق. وخلف أولئك المستشارين يوجد الساسة الحقيقيون الذين يديرون اللعبة السياسية، وهنا يمكن توقع ظهور شخصية مثل دونالد ترامب للترشح للرئاسة لتكشف عن أن الرئاسة الأميركية ليست بالضرورة الى رؤساء بقياسات سياسية تتناسب ودولة عظمى، وخطاباته التي يتحرك بها جماهيريا إنما هي من قبيل الصوت العالي لإبراز نوع من الروح العدائية التي يتوهم بأنها تواكب القوة الأميركية، لأنه في الواقع لا يحتاج العالم لرئيس أميركي عدائي وغليظ الفكر أو سطحي الى الحد الذي لا يقرأ فيه الأحداث بصورة منطقية. ترامب نموذج للحصان البري الذي يمكن لحزبه أن يروضه طوال فترة الترشح الرئاسي الحزبي، كما أنه بمثابة “تيرمومتر” للخطاب التالي في المرحلة التنافسية، فهو وإن كان جامحا ومتهورا ومبتذلا في الخطاب، فستتم إعادة صياغته كلية في مرحلة الترشح الرئاسي للبلاد، فخطابه خارج سياق العصر ولغة السياسة المهذبة، وهو كما وصفه كتاب أميركيون زاخر بالشتائم وينضح بالابتذال، وكاره بائس للنساء، اللاتي يصفهن اعتمادا على حالته المزاجية بأنهن كالكلاب أو الخنازير أو الحيوانات المقززة المثيرة للاشمئزاز. ما يطفح من ترامب من عنصرية عرقية ودينية ووحشية وعدائية لكثير من الأفكار والكيانات لا يمكن معه أن يكون مرشحا يحظى باحترام سياسي، وهو في الواقع بالون من بالونات المهرجانات الانتخابية التي يمكنها أن تحلق عاليا ثم تنفجر في الهواء، ومن الصعب تقبل فكرة أن تأتي أميركا برئيس بكل هذا البؤس ما لم يعتدل خطابه العلني لأن ذلك يكلف الدولة كثيرا ويجعلها أقل قبولا على الصعيد الدولي.
من الصعوبة كذلك أن يتعاون أو يتعامل المجتمع الدولي مع رئيس لا يجيد لغة الخطاب السياسي أو الديبلوماسية، ولكن السؤال لماذا انتجت “الميديا” الأميركية والمزاج السياسي نموذج هذا الرجل الذي تم نزعه من العالم الرأسمالي القاسي والوحشي الى عالم السياسة التي تحتاج ذكاء ومرونة ودقة في اختيار الكلمات؟ أميركا تحولت الى الأسوأ، ذلك خيار أكثر قسوة بالنسبة للمواطن البسيط الذي لا يحتاج الى تفكيك لفكرته الراسخة عن الحلم الأميركي الذي عبث به الرأسماليون الذين هبطوا الى دنيا السياسة بالمظلة. السماح لنموذج ترامب بأن يطفح في السطح السياسي الأميركي تأكيد على تحولات عميقة في البنية السياسية للدولة الأميركية، فمثل هذا الرجل لم يكن له أن يقترب من الفضاء السياسي في السابق، وذلك ما جعل أميركا بعيدة عن التهريج والفوضى التي تضرب النسيج الاجتماعي الأميركي، ولذلك فهو التفكيك الأبرز لأميركا التاريخية وقبولها وسماحها بأن يمارس العملية السياسية من هم أكثر من مجرد كومبارس لساسة الظل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة