كم يصبح الدفاع عن لبنان مهمة شاقة إزاء حال كهذا، أعني فكرة أن تقرر مجموعة ما أن تهجم وتخرب ولا رادع لها
لأن لبنان ليس كذبة، ولأن من بيننا «وطنيين» يرفضون التعرض للكرامة، هجم البعض على مكاتب صحيفة «الشرق الأوسط» في بيروت، وعاثوا فيها، وشتموا، وانتهكوا، وروعوا الزملاء احتجاًجا على كاريكاتير ساخر.
خرج هؤلاء بعد أن مارسوا مواطنتهم واحتفلوا بما فعلوا، والأهم أنهم «ثأروا» للدولة اللبنانية التي لم يرها أحد فيما كان هؤلاء يشهرون غضبتهم لها. فلا أمن هناك ليلحظ حشًدا يتجمع ويصعد إلى مبنى في وسط المدينة، ليوقفه أو يمنعه، ولا حرج أصلاً عندنا من فكرة اقتحام مكاتب ومؤسسات، بل هذا الحشد الصغير كان مصحوًبا بكاميرات وبممثلي وسائل إعلام، وقد انتهك أفراده المبنى وهم يهللون ويغنون للوطن الذي ليس كذبة.
كم يصبح الدفاع عن لبنان مهمة شاقة إزاء حال كهذا، أعني فكرة أن تقرر مجموعة ما أن تهجم وتخرب ولا رادع لها. المجموعة نفسها التي اقتحمت المكاتب تضم أشخاًصا يرون أنه من الطبيعي أن يستبدل علم حزب الله بعلم لبنان تماًما كما حدث في إحدى المظاهرات قبل بضعة أعوام، هنا في قلب بيروت، في حين عمد آخرون، وعن حق، للمشاركة في حملة استبدلت بأرزة العلم كيس نفايات احتجاًجا على أزمة النفايات الأخيرة. فما الحرج في الكاريكاتير الآن؟!
وفكرة اقتحام مكاتب إعلامية سبق أن اختبرناها مراًرا في لبنان، وكانت السابقة الأخطر هي حين أقفل وأحرق حزب الله مكاتب إعلام «المستقبل» في هجمته الشهيرة على بيروت عام 2008. من هجم على مكاتب «الشرق الأوسط» ومن بينهم جنود إلكترونيون في جيش «حزب الله» الإعلامي لا يعنيهم أن هذا الحزب لا يرى في لبنان سوى كيان هلامي لا حدود ولا سيادة له، بل إنه انتهك هذه السيادة وداسها مراًرا ولا يزال.
أنا كنُت ممن رأوا أن الكاريكاتير الذي رسمه الزميل أمجد رسمي في «الشرق الأوسط» والذي ينتقد مفهوم الدولة اللبنانية، ويصفه بأنه «كذبة نيسان»، قاٍس واستفزازي وفي غير محله، ويشمل لبنان كله. لكن وبعد أن شاهدت ما حصل ورأيت من اقتحم المكاتب وما فعلوا وكيف ثّبتت فعلتهم مبدأ الانتهاك المتكرر لفكرة الدولة اللبنانية، شعرت فعلاً بأن فكرة الكاريكاتير كانت في محلها، بل حقيقة مؤلمة للأسف.
دولتنا غير موجودة، وهذا هو جوهر أزمتنا. نعم، نشعر بالاستهداف ونحن نرى الحملات تتوسع لتشمل كل لبنان وتطال كل اللبنانيين لكن كيف يمكن أن نقتنع نحن قبل غيرنا بأننا مواطنون في دولة؟! وللمفارقة، فإنه، وقبل ساعات من الاعتداء على مكاتب «الشرق الأوسط»، كانت القوى الأمنية تكشف تفاصيل مروعة لشبكة اتجار بالفتيات والنساء من اللاجئات السوريات تظهر حقائق مخيفة عن واقعنا وعما يحصل، وهو كشف لم يستدِع أي غيرة على الوطن المتداعي، بل ليختم النهار بهجمة بعض العدميين والمارقين على مكاتب الصحيفة.
نعم الكاريكاتير تجاوز انتقاد الدولة اللبنانية ليطال البلد ربما، لكن ردة الفعل كشفت مفهوًما مبتذلاً للمواطنة بدأ يرعاه منتهكو الجوهر الفعلي لهذا المبدأ. أعني أولئك الذين ألغوا الحدود ومنعوا انتخاب رئيس، وبالغوا في تخويف اللبنانيين من اللاجئين السوريين حتى بات انتهاك آدميتهم يمر دون كثير ضجة.
المواطنة في لبنان باتت بين أيدي الرعاع، وعلينا استعادتها منهم قبل أن نغضب من الكاريكاتير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة