قبل نحو أربعة أعوام، كنا في زيارة ضمن وفد المجلس الوطني السوري إلى نيويورك، حيث اجتمعنا مع مندوبي مختلف الدول في مجلس الأمن
قبل نحو أربعة أعوام، كنا في زيارة ضمن وفد المجلس الوطني السوري إلى نيويورك، حيث اجتمعنا مع مندوبي مختلف الدول في مجلس الأمن. وفي اجتماعنا مع مندوبة الولايات المتحدة حينذاك سوزان رايس، فهمنا أن أميركا لن تتدخل لإيقاف القتل الذي تعرّض ويتعرّض له الشعب السوري، ولن تقدم المساعدة المطلوبة ليتمكن الشعب السوري من الدفاع عن نفسه. كما تبيّن لنا أن مجلس الأمن ليس بصدد اتخاذ قرار إلزامي يرغم النظام على وقف القتل.
ومما قلناه لرايس في ذلك اللقاء أن استمرار الوضع هكذا، أي الوحشية المفرطة للنظام والسلبية اللافتة والغريبة للمجتمع الدولي، والولايات المتحدة تحديداً، سيستقدم الإرهاب إلى سورية، وحينئذٍ فإنه لن يقتصر على سورية وحدها بوصفها دولة مفتاحية في المنطقة، بل سينتشر في المنطقة، ويصل إلى مسافات بعيدة. ولم نكن نقرأ في الغيب، وإنما كنا نستند إلى معرفتنا وخبرتنا بطبيعة النظام السوري، وبالاستراتيجية التي اتبعها منذ بداية الثورة التي تمثّلت بإبعاد العلويين والكرد والمسيحيين والدروز وبأي ثمن عن الثورة، ليتمكّن من تسويق زعم متهافت فحواه أن ما يجرى «صراع بين السلفيين الجهاديين الإرهابيين من العرب السنة، والنظام العلماني، حامي الأقليات، وضامن الأمن والاستقرار في سورية والمنطقة».
ولدى لقائنا رايس، لم تكن هناك جبهة النصرة، ولم يكن هناك «داعش»، لكننا كنا نستشف من طريقة التعامل مع ضباط الجيش الحر، والتضييق عليهم (الأمر الذي وضع حداً لموجة الانشقاقات) أن الأمور لا تسير في الاتجاه الصحيح، وأن الإرهاب المتطرف قادم. وفي أحد لقاءاتنا مع ضباط الجيش الحر، والذي حضره عشرات العمداء والعقداء، كان من الملاحظ أن مشاعر الإحباط تهيمن على اللقاء. فالضابط إذا ما حرم من سلاحه وعناصره تحوّل إلى مجرد عاطل لا يتقن أية حرفة. ومع الوقت، تحوّل قسم من هؤلاء تابعين لأصحاب توجهات متشددة لا تتقاطع مع المشروع الوطني السوري المدني والديموقراطي التعددي، الذي كنا وما زلنا نرى أنه المخرج الآمن للجميع. هذا في حين أن المنطق كان يستوجب أن يقود هؤلاء الضباط، من موقع الكفاءة والقدرة، أي جهد عسكري ضمن الثورة، بعد أن فرض النظام القتال على السوريين، اعتقاداً منه أنه إذ يدفع بالثورة نحو العسكرة فإنما يدفع بها نحو ميدان قوته، وسيكون القضاء عليها مسألة وقت.
لم تُدعم الثورة السورية كما ينبغي، بل كان التدخل في أدق التفاصيل من دون تقديم المقوّمات الحقيقية التي تمكّنها من الانتصار. وتطورت الأمور، وكان الإرهاب، وظهر «داعش»، الوحش اللغز، ليستولي على الأراضي المحررة، ويتنقّل شرقاً وغرباً بقوافل آليات مقاتليه، وطوابير صهاريج النفط المسروق، ويستولي بسرعة البرق على الأراضي، ومن دون أية ردة فعل مناسبة من جانب القوى القادرة على الكبح.
هكذا وجدت الثورة نفسها تقاتل على جبهتين: جبهة النظام القاتل، وجبهة الإرهاب المتوحش. هذا مع وجود دلائل كثيرة تؤكد التنسيق والتناغم بين الجبهتين ضد الجيش الحر والفصائل الميدانية المتحالفة معه.
وأعلنت الولايات المتحدة عبر التحالف الدولي الذي شكلته أن الأولوية باتت لمقاتلة الإرهاب الداعشي، الذي كان من اللافت توجهه نحو المناطق المحررة، ولم يدخل في أية معركة حقيقية مع النظام، وإنما كان طابع التسليم والتسلم هو الطاغي في مختلف المناطق.
وانتشر الإرهاب ليطال كردستان العراق وتركيا، الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام وسؤال حول الدوافع والمغزى والموجّهات، ثم اتسع نطاقه أكثر ليشمل الدول الأوروبية، الأمر الذي من شأنه الدفع بالرأي العام الأوروبي نحو البحث عن المخرج الذاتي، والقطع مع التوجه المتعاطف مع الشعب السوري.
وتكاملت نتائج التفجيرات الإرهابية في فرنسا وبلجيكا، وخلاصات التحقيقات الخاصة بالتهديدات الإرهابية في أكثر من دولة أوروبية، مع توجهات نزعة الإسلاموفوبيا التي باتت اليوم أكثر انتشاراً في المجتمعات الأوروبية من أي وقت مضى. وبات التحسّب من كل ما هو عربي ومسلم هاجساً يتحكّم بمزاج الناس العاديين، وهذا ما يتوافق مع توجهات المتطرفين القومويين من الأوروبيين.
فناسنا يتطلعون نحو الشمال بغية الخلاص، والشمال يغلي بخوف هستيري نتيجة التفجيرات الإرهابية، وتوقعاً لما هو أسوأ.
الأمور على درجة كبيرة من الصعوبة والخطورة، ولا تبدو في الأفق حلول واقعية ممكنة في المدى القريب. هكذا نعود إلى الحل الجذري الذي يتمثل بإنقاذ السوريين من المصدر الأساس للإرهاب الذي مورس ويمارس ضدهم وضد دول المنطقة. وهذا الحل لم يعد في نطاق الواجب الأخلاقي والإنساني للأوروبيين، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من واجباتهم القومية- الوطنية التي تلزمهم بحماية أمن مجتمعاتهم، وإنقاذها مما يتهدّدها من أخطار بنيوية جسيمة في المستقبل إذا ما وصلت الأمور إلى حد تفجّر الصراع والصدامات بين أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب والمسلمين، والأجيال الأوروبية الشابة التي غدت موضوعاً للجهود الإعلامية والتنظيمية التي تبذلها الأحزاب والقوى المتطرفة.
فمن دون حل الصراع في سورية، ستظل الأوضاع في المنطقة وفي أوروبا مفتوحة على كل الاحتمالات الكارثية. السوريون يحتاجون إلى المساعدة لبلوغ شاطئ الأمان، وذلك عبر تعزيز الأمن والاستقرار في بلادهم في ظل نظام رشيد مدني ديموقراطي، والانطلاق بمشروع تنموي عملاق يهيئ مقدمات عودة ملايين السوريين، ويعيد البناء، ويوفر فرص العلم والعمل للجيل الشاب. ومن يدري، فربما نشهد بعد ذلك هجرة معاكسة من الشمال نحو الجنوب بحثاً عن الشمس والبحر والمصالح في مناخ يسوده الحوار والتمازج الحضاريان، عوّضا الصراع الذي أنذر به هنتنغتون وغيره.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة