عنوان هذا المقال لمن لا يعرف هو عنوان الفيلم الذى أذاعته الفضائية البريطانية العربية عديداً من المرات فى
عنوان هذا المقال لمن لا يعرف هو عنوان الفيلم الذى أذاعته الفضائية البريطانية العربية عديداً من المرات فى الأسبوع الماضى، ويكفى أننى شاهدته بالصدفة المحضة أربع مرات فى أربعة أيام، وفى المرة الأولى فوجئت به، وفى الثانية أخذت أتأمل فى محتواه، وفى الثالثة فكرت فى الكتابة عنه، وفى الرابعة حسمت أمرى وقررت أن أشرك القارئ الكريم فى انطباعاتى عن هذا الفيلم الذى يناقش قضية لابد وأن نهتم بها، لأنها تتعلق بصورتنا المشوهة فى الخارج، سواء بسبب ممارسات خاطئة تحدث فى الداخل أو تشويه متعمد من دوائر مصرية وخارجية معادية للنظام المصرى الحالى، وتعتبر أن إسقاطه فريضة واجبة ، وموضوع الفيلم ينصب على معاملة مجندى الشرطة فى قطاع الأمن المركزى.
ويذهب إلى أن هذه المعاملة قد بلغت حداً من السوء إلى الدرجة التى أفضت إلى ظاهرة «الموت فى الخدمة»، ولكى يثبت صانعو الفيلم مقولتهم فإنهم يعرضون أربع حالات لمجندين لقوا حتفهم فى الخدمة، ثلاثة منهم عُرضت قصصهم بشكل تفصيلى والرابع بمجرد الإشارة إلى تاريخ وفاته ، ومن الواضح أن الفيلم يريد أن يوصل رسالة مفادها أنهم قُتلوا بالمخالفة للرواية الرسمية التى ذهبت إلى أنها حالات انتحار، وفى حالة وحيدة اتهمت النيابة ضابطاً بقتل مجند بناء على تقرير الطبيب الشرعى الذى تناقض مع القول إن الوفاة كانت نتيجة ضربة شمس ومازال هذا الضابط يحاكم حتى الآن وفقاً للفيلم .
لا شك أن الموضوع يهمنا لأنه يتضمن صراحةً مساساً بالسلطتين التنفيذية والقضائية فى مصر ، أما التنفيذية فهى ممثلة فى وزارة الداخلية التى يذهب منطق الفيلم إلى أن الأوضاع السائدة فى معسكرات الأمن المركزى هى التى سمحت بالظاهرة التى تناولها ، وأما القضائية فلأن الفيلم يتهم النيابة بالتلكؤ فى التحقيق وعدم متابعة تنفيذ ما أمرت به من إجراءات لضمان سلامته ، وهى قضية رغم جزئيتها تمس سمعة السلطتين وصدقيتهما، ولابد من أن تكون لهما كلمة فيها لأن مشاهدة الفضائيات عالية وقد تكون مشاهدة الفضائية البريطانية للأسف أعلى بكثير من الفضائيات المصرية الرسمية، ولذلك لا يصح القول إن فيلماً كهذا هو زوبعة فى فنجان سرعان ما تذهب أدراج الرياح، أولاً لأن هناك التأثير المباشر للفيلم الذى يجب ألا يُستخف به، وثانياً وقد يكون هذا هو الأهم لأن هناك المتربصين فى الداخل الذين يبحثون عن الإبر فى أكوام القش سعياً لأى شىء يمكن استخدامه فى التعريض بالأوضاع الحالية فى مصر، والأكثر من ذلك أن هذه النوعية من الأعمال الإعلامية تساعد على ما أُسميه «غسيل المعلومات» ، فالفيلم يوحى بشدة وإن لم يؤكد أن الموت فى الخدمة قتل وليس وفاة عادية، وبمجرد عرضه ظهر فى مقالات صحفية مصرية وتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى ما يعتبر اتجاه الفيلم من قبيل الحقائق والمسلمات، ولذلك فإن ما ذُكر بالفيلم من أن دوائر الداخلية قد رفضت التواصل مع صانعيه لو كان صحيحاً ليس تصرفاً صائباً، لأنه إما أن يكون لدينا ما يدحض ما ورد بالفيلم فنعلنه، أو أن ثمة ممارسة خاطئة قد وقعت فنعتذر عنها ونصححها وحتى لو كان كل ما ورد بالفيلم من قبيل الكذب البواح فإن تجاهله ليس صواباً، لأنه كما سبق وأشرت سوف يُشاهد على نطاق واسع وقد يُصدق بل ويُستغل لغرض التشويه.
بعد ذلك لا شك أن الفيلم يثير علامات استفهام مشروعة فى إطار هواجس قطاع واسع من المصريين حول نوايا مبيتة لا تريد بمصر خيراً ، وليس من حقى أو حق غيرى أن يحدد للإذاعة البريطانية أولوياتها، ولكن من حقنا بالتأكيد أن نتساءل وبالتحديد من منظور الممارسات المناقضة لحقوق الإنسان: ألم تجد الإذاعة البريطانية فى طول الوطن العربى وعرضه ما يتصل بهذه الممارسات إلا ما يجرى فى مصر ؟ ولا ننسى بطبيعة الحال أن هذه الإذاعة لم تقصر فى أن تقتل بحثاً أى مظهر للتوتر فى مصر ، وقد يكون فى هذا شهادة بأن ما يجرى فى مصر يفوق فى أهميته ما يحدث فى أى مكان آخر فى الوطن العربى، أو بأن الانفتاح الإعلامى الموجود لدينا يُمكن الإذاعة البريطانية من البحث والتحرى بحرية وسط الناس، بينما هى غير قادرة على أن تفعل ذلك فى أماكن عديدة أخرى فى الوطن العربى لا وجه للمقارنة بين ما يحدث فيها وما يحدث فى مصر.
وأصل بعد ذلك إلى درجة الموضوعية فى الفيلم . لقد استكمل صانعوه أركان الموضوعية من الناحية الشكلية فاستضافوا أستاذ تاريخ مصريا موجودا حالياً فى جامعة هارفارد، وعميد شرطة متقاعد يرأس مركزاً للدراسات الأمنية، وكذلك قابلوا وكيل أسرة أحد الذين ماتوا فى الخدمة ووكيل الضابط الوحيد الذى اتهم رسمياً بالقتل، وقابلوا أيضاً أسرتى اثنين من المجندين الذين يدور الفيلم حولهم. لكن الحيز الزمنى الذى أُعطى للمدافعين عن وجهة نظر الفيلم كان أكثر بكثير مما أُتيح لوجهة النظر الأخرى ، ومن ناحية ثانية استخدم الفيلم تكنيك المشاهد التمثيلية ببراعة شديدة وصورت هذه المشاهد فى أضواء خافتة ومن زوايا ضيقة وغير مباشرة بحيث توحى بأنها حقيقية ، ولم لا وقد أصبحت المشاهد الواقعية تتسرب مع التقدم المذهل فى وسائل التصوير؟ ويلاحظ أن الفيلم لم يذكر سوى مرتين أن هذه المشاهد تمثيلية، بحيث قد ينخدع البعض بأن بقية المشاهد حقيقية، وحتى لو كان هذا احتمالاً مستبعداً فإن الجو النفسى للفيلم وإتقان تلك المشاهد لابد وأن يخلق لدى المشاهد انطباعاً بوحشية ما جرى . أقول قولى هذا وأترك للقارئ الكريم أن يصدر حكمه كما يرى.
*- ينشر هذا المقال بالتزامن مع صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة