النظام الإيراني يعمل وفق إستراتيجية البقاء تحت الأضواء، والاعتقاد بأن بلاده محور العالم وقلبه، وبالتالي يسعى إلى تحقيق ذلك
ألف الشاعر الشهير نظامي كنجوي، 5 منظومات أدبية رومانسية ضخمة، الرابعة منها تسمى "هفت پیکر" أو "هفت گنبد" وتعني التماثيل السبعة أو الجماليات السبع، وقد نظمها في عام 1197م تقريبا، في مدح حاكم "المراغه" علاء الدين كرب أرسلان. نظم كنجوي منظومته باللغة الفارسية وإن كان كثيرون يعتقدون أنه وبسبب الموقع الجغرافي الذي ينتمي إليه من أصول آذرية وليست فارسية، ولكنه عاش في بيئة يحكمها الفرس. في هذه المنظومة الشعرية يشبه الشاعر العالم بالجسد وأن إيران بمثابة القلب. وبعبارة أخرى، يرى أن إيران قلب هذا العالم ومحوره كما أن القلب أهم أجزاء الجسد. يقول في أحد أبيات قصيدته:
العالم بأكمله كالجسد وإيران القلب/ ليس هناك خجل في المقارنة
لأن إيران قلب الأرض... فمن المؤكد أن القلب أفضل أجزاء الجسد.
أيضاً في منظومات أدبية كلاسيكية إيرانية أخرى هناك من يقسم العالم إلى 7 مجرات، بحيث يتم رسم 6 منها على شكل دائرة وتوضع المجرة السابع في وسط هذه الدائرة لتصبح المحور الذي تدور حوله بقية المجرات، وهي بذلك على مسافة واحدة جغرافيا منها جميعا.
لماذا نقوم بسرد هذه الفلسفة التي وردت في ملحمة رومانسية في مقالة سياسية كهذه؟ من يتتبع تحركات إيران منذ الثورة يجد أن النظام الإيراني يسعى دائما إلى أن يكون في واجهة الأحداث ومحور حديث العالم. فإذا ما تجاوزنا السنوات الأولى للثورة حيث الحرب العراقية الإيرانية والتصريحات الإيرانية المتتالية حول العراق والمنطقة، نجد أن شعارات محمد خاتمي حول حوار الحضارات قد ملأت الدنيا، ومنذ 2002 دخل العالم في قضية النووي الإيراني، وقد استمرت هذه الزوبعة لمدة 13 عاما، وما إن أدركت إيران جدية العالم حتى قبلت بالاتفاق، وقد كان لها أن تفعل قبل عشر سنوات على أقل تقدير وتجنب شعبها آثار العقوبات وأضرارها. تخلل هذه المرحلة بطبيعة الحال تصريحات نارية للرئيس السابق محمود أحمدي نجاد أثارت وسائل الإعلام في كل مكان وانشغل بها لبضعة سنوات وكان حينها الملف النووي في المرتبة الثانية في الغالب.
والآن وبعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1، نجد أن إيران تثير قضية الصواريخ الباليستية، وأصبح النقاش حاليا من الجانب الغربي بالتأكيد على أن تطوير هذه الصواريخ والقيام بالتجارب عليها يعد نقضا صريحا للاتفاق النووي، بينما تصر إيران على العكس من ذلك تماما، وترى أن هذه التجارب حق مشروع لها في الدفاع عن نفسها ولا نعلم متى وكيف سينتهي هذا الجدل، والأهم ماذا تحضّر إيران لمرحلة ما بعد حل قضية الصواريخ الباليستية؟
السؤال هنا لماذا تصر إيران على القيام بكل هذا؟ هناك نظريتان أساسيتان يمكن طرحهما حول الموضوع: النظرية الأولى تتحدث عن أن هناك إستراتيجية إيرانية تهدف إلى إشغال الداخل عن المطالبة بحقوقه الثقافية والسياسية والدينية والعرقية عبر بعبع العدو المتربص الذي يسعى إلى استهداف البلاد، وبالتالي يجب التصدي لهذه المخاطر الخارجية المحدقة بالبلاد أولا. هذه الإستراتيجية مرتبطة بإستراتيجية أخرى تتمثل في تصدير المشكلات إلى الخارج أو ما يعرف بإستراتيجية "الهروب إلى الأمام"، وقد اتكأ عليها النظام الإيراني منذ انتصار الثورة في 1979 والشواهد على ذلك كثيرة. من خلال هذه الإستراتيجية يبدأ النظام باختلاق المشكلات مع العالم الخارجي، سواء فيما يتعلق بقضية التدخلات في شؤون الدول الأخرى أو عبر جذب أنظار العالم عبر قضايا تمس الأمن والسلم العالميين وبالتالي يضمن حتمية تفاعل العالم مع ذلك.
النظرية الثانية، ترى أن النظام الإيراني يسعى إلى كسب شرعيته وتعميقها وتهميش أثر الاتهامات الدولية المختلفة له من خلال جعل التفاوض مع القوى الكبرى في العالم هدفا محوريا بحد ذاته. وبتحقق ذلك لم يعد سؤال الشرعية مطروحاً إطلاقا، فكيف يكون ذلك وإيران تجلس حول طاولة واحدة مع أعضاء مجلس الأمن وألمانيا؟ ووفقا لهذه النظرية، فإن هذه الإستراتيجية الإيرانية تحتوي على رسالة للداخل الإيراني أيضا، وبالتالي السعي إلى وأد محاولات داخلية لتهديد استمرار النظام أو تقويضه.
في المجمل، وبغض النظر عن أي هاتين النظريتين أقرب إلى الواقع، فإنه يتضح جليا أن النظام الإيراني يعمل وفق إستراتيجية البقاء تحت الأضواء والاعتقاد بأن بلاده محور العالم وقلبه وبالتالي يسعى إلى تحقق ذلك إعلاميا، على أقل تقدير، من خلال خلق هذه الزوبعة الإعلامية ومحاولات إثارة المجتمع الدولي ليصبح اسم "إيران" على الصفحات الأولى للصحف العالمية وبرامج التحليل السياسي ونشرات الأخبار، وبذلك يتحقق هدف البقاء بعيدا عن أي تهديدات حقيقية سواء من الداخل أو الخارج، رغم كثرة المشكلات التي تحيط بالنظام على كافة الأصعدة. لكن هل سينجح العالم في تفكيك هذه الإستراتيجية المعقدة وحلحلتها وإعادة إيران إلى مواجهة ما تتهرب منه طيلة ثلاثة العقود ونيف الماضية، ويقول للنظام اللاهوتي هناك: كفى لعباً وعبثاً؟
*- ينشر هذا المقال بالتزامن مع صحيفة الوطن
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة