خلال ثمانية عقود من تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كانت هناك خمسة عوامل رئيسية حددت خريطة المصالح الأميركية في المنطقة
خلال ثمانية عقود من تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كانت هناك خمسة عوامل رئيسية حددت خريطة المصالح الأميركية في المنطقة: النفط، أمن إسرائيل، المصالح الجيوسياسية، الحرب ضد الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل (مع استثناء إسرائيل!). وظهرت هذه المصالح مع مرور الوقت، وهي تخضع لتغيرات استراتيجية وتحولات جوهرية قد تساعد على تفسير التراجع الأخير للسياسة الأميركية، والتي قد تدل على اتجاهات سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة في المستقبل.
تراجع الحاجة للنفط
شكل النفط أطول مصلحة دائمة في المنطقة، يعود تاريخها إلى ثلاثينات القرن الماضي، وكانت الولايات المتحدة تحصل على غالبية احتياجاتها النفطية من منطقة الشرق الأوسط وخاضت حربين شرستين في عام 1991 وفي عام 2003، للحفاظ على الهيمنة على مساحات واسعة من مصادر النفط في المنطقة.
ولكن الولايات المتحدة اليوم تستورد أقل من 15 في المئة من احتياجاتها من النفط من الشرق الأوسط، وهو أقل مما تحصل عليه من الولايات المتحدة نفسها أو كندا أو أميركا اللاتينية؛ وتقريباً بقدر ما تحصل من أفريقيا. وتسير الولايات المتحدة بخطى ثابتة نحو الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة. ومن المرجح أن تبقي قواتها العسكرية في الخليج في المستقبل المنظور لحماية تدفق موارد الطاقة إلى الأسواق العالمية، ولكن من غير المرجح أن يقوم أي رئيس بإرسال قوات عسكرية كبيرة إلى المنطقة بسبب المخاوف المتعلقة بالطاقة. فهذه العلاقة القديمة التي دامت ثمانين سنة وبنيت على الطاقة معرضة للتفكك.
الاكتفاء الذاتي للأمن الإسرائيلي
العلاقة مع إسرائيل هي ثاني أقدم العلاقات الأميركية في المنطقة. فقد بدأت في عام 1948، ولكنها تعززت بعد عام 1967. وذهبت العلاقة مع إسرائيل ربيبة أميركا المدللة إلى ما هو أبعد من المصالح الاستراتيجية أو الاقتصادية، وتطورت لتصبح جزءاً من الثقافة والسياسة الداخلية الأميركية. وتجسد ذلك في شكل كامل في المؤتمر السنوي الأخير للوبي المؤيد لإسرائيل «ايباك»، حيث تنافس المرشحون للرئاسة، بمن فيهم دونالد ترامب، على إظهار من هو صاحب المواقف الأكثر تطرفاً في موالاة إسرائيل. وبقي بيرني ساندرز وحده بعيداً. ولكن العلاقة الاستراتيجية تغيرت. فبعد معاهدة كامب ديفيد، وبعد تفكيك كل من العراق وسورية، لم تعد إسرائيل تواجه أي تهديد حقيقي من جانب الدول العربية، بل لديها علاقات إستراتيجية جيدة مع العديد منها، وقد تم التعامل مع تهديد برنامج إيران النووي ولو في الوقت الراهن باتفاق دول الـ 5+1 النووي. وبنت إسرائيل قدرات عسكرية قوية، بمساعدة أميركية، ولكن لم تعد بحاجة لنشر قوات عسكرية أميركية أو مشاركتها مباشرة في حمايتها. إن الاكتفاء الأمني الذاتي الإسرائيلي وأفول التهديدات العسكرية الضخمة يقللان من ضرورة تواجد أميركا في المنطقة.
تراجع المصالح الجيوسياسية
خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كانت لكل دولة أهمية بالنسبة إليهما، وكان أي مكسب للسوفيات يعد خسارة استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة. ولكن الحرب الباردة انتهت وانقضى تعداد الحلفاء والأعداء في لعبة الشطرنج العالمية. فلم تبالِ مؤخراً الولايات المتحدة مثلاً بتراجع تحالفاتها القوية مع دول كبرى في المنطقة مثل مصر وتركيا، ولم تظهر رد فعل يذكر عندما أرسلت روسيا قواتها إلى سورية.
روسيا حريصة على المبالغة في استعراض قوتها وتتحدث عن عودة أجواء «الحرب الباردة» التي لعبت فيها موسكو دوراً مساوياً لواشنطن، ولكن الولايات المتحدة تنظر إلى روسيا كقوة ثانوية وتراها في تراجع، وإن كان بمقدورها أن تسبب بعض المشاكل أثناء تراجعها. ولكن المنافسة العالمية ستكون في نهاية المطاف مع الصين، وليس مع روسيا. وقد بدأ هذا الصراع الجيو استراتيجي في آسيا وبحر الصين الجنوبي، ولكن لا يزال يبدو بعيداً عن الوصول إلى منطقة الشرق الأوسط.
توطين الحرب على الإرهاب
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، ومع عودة الجماعات الإرهابية منذ ذلك الحين قفز الإرهاب إلى المرتبة الأولى باعتباره قضية الأمن الوطني الرئيسية للولايات المتحدة. لا تواجه الولايات المتحدة تهديداً حقيقياً من قبل أية دولة أو مجموعة من الدول في العالم، لكنها لا تزال معرضة - مثل دول أوروبا - لهجمات إرهابية. وقد أدى هذا القلق في البداية إلى قيام الولايات المتحدة، في ظل إدارة بوش، بزيادة كبيرة في التدخل العسكري في الشرق الأوسط. لكن سنوات من هذا التدخل سببت خسائر بشرية ومالية كبيرة ولم تهزم الشبكات الإرهابية، بل زادتها قوة. وبمرور الوقت تم الاستنتاج بأن مكافحة الإرهاب يمكن أن تتم بصورة أكثر فعالية عن طريق تقوية الأمن القومي والاستخبارات وقوات الشرطة في الداخل بدلاً من شن الحروب الدولية لهزيمة الشبكات والخلايا الإرهابية أينما وجدت في أنحاء العالم. وسوف تستمر الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب من خلال هجمات الطائرات من دون طيار والتعاون مع وكالات الاستخبارات في المنطقة وحول العالم، وسوف تكون هناك جهود مركزة على هزيمة «داعش»، ولكن واشنطن ستركز على الأمن القومي في حين تتقبل واقع استمرار الشبكات الإرهابية في الوجود في العالم الخارجي.
أسلحة الدمار الشامل
لعل الأكثر إثارة لقلق واشنطن على أمنها القومي على المدى الطويل هو حصول منظمات إرهابية على أسلحة دمار شامل. فالولايات المتحدة يمكنها أن تستوعب هجمات من قبل الإرهابيين بالأسلحة الرشاشة أو القنابل المحلية الصنع، ولكن السيناريو الكارثي هو أن تتمكن مجموعة إرهابية من الحصول على سلاح نووي أو كيماوي أو بيولوجي.
فقد بررت إدارة بوش – بصرف النظر عن مصداقية ذلك – احتلالها للعراق بسبب قضية أسلحة العراق المفترضة وبرامج أسلحة الدمار الشامل. وهدد أوباما بالعمل العسكري في سورية – على رغم تراجعه في ما بعد - فقط بسبب قضية الأسلحة الكيماوية. وكان جهده السياسي الأكبر مركزاً بالدرجة الأولى على وقف قدرة إيران على إنتاج أسلحة نووية. ولا تزال كوريا الشمالية تشكل مصدر قلق للولايات المتحدة فقط لأنها تمتلك أسلحة نووية. وقد وضع غزو العراق في عام 2003 وقرار القذافي تسليم برنامج الأسلحة النووية في نفس العام، والهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي السوري المزعوم في عام 2007، وتسليم سورية أسلحتها الكيماوية في عام 2013 - 2014، كل هذا وضع نهاية لبرامج أسلحة الدمار الشامل في الدول العربية في المستقبل المنظور. وبالاتفاق مع إيران الذي ضمن توقف برنامجها للتسلح النووي على الأقل لمدة عشر سنوات أو أكثر، تبقى إسرائيل الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل في المستقبل المنظور. إذن فإن مسألة هذه الأسلحة لن تعيد الولايات المتحدة إلى المنطقة في المستقبل القريب.
الخلاصة
قيل الكثير حول ما إذا كان فك ارتباط أوباما بالشرق الأوسط هو مجرد انعكاس لمزاجه وأفضلياته الشخصية، أو إذا كان ذلك رد فعل موقتاً على الإفراط في التمدد العسكري لإدارة جورج بوش. لكن وكما يبدو من تحليل العناصر الخمسة الرئيسية المشار إليها أعلاه، فإن ذلك يعطي دلالة على أنه قد يكون اتجاهاً طويل الأجل للسياسة الخارجية الأميركية.
فلم يعد الرأي العام وجزء كبير من النخب السياسية وصانعو الرأي في الولايات المتحدة يرون الشرق الأوسط كمنطقة استثنائية للمصالح الاقتصادية والسياسية تتطلب تدخلاً أميركياً على نطاق واسع. ولا يقترح أي من المرشحين للرئاسة الأميركية انقلاباً كبيراً على سياسة أوباما، بل يقومون فقط بإعادة تقويم طفيف قائلين إنهم سيكونون أكثر صرامة في مواجهة «داعش» أو أكثر صلابة نحو إيران وأكثر قرباً من إسرائيل. بل إن دونالد ترامب يقترح حتى فكرة فك الارتباط الكامل مع المنطقة وحظر جميع المسلمين من القدوم إلى الولايات المتحدة! قد تكون هذه التصريحات للاستهلاك السياسي خلال الحملات الانتخابية، لكنها تشير إلى الهوة التي اتسعت بين الولايات المتحدة والمنطقة.
قد يعد فك ارتباط الولايات المتحدة بالمنطقة أمراً جيداً من حيث المبدأ. لكنه أدى حتى الآن إلى خلل في ميزان القوة مع إيران، وفراغ ملأته جهات متطرفة وإرهابية، وتم تصعيد الحروب بالوكالة بين القوى الإقليمية. وقد أدى ذلك أيضاً إلى عودة القوى الخارجية الأخرى مثل روسيا وإلى تعقيد العلاقات الدولية في المنطقة.
وستحدد كيفية تعامل قادة المنطقة مع انحسار الوجود الأميركي ما إذا كان القرن الـ21 سيظل قرناً من الحروب الإقليمية والمذهبية والأهلية، أو فرصة لبناء القدرات والاستقرار الإقليمي على أساس احترام السيادة والتعاون والمنفعة المتبادلة بعيداً عن التدخل الخارجي.
* - ينشر هذا المقال بالتزامن مع جريدة "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة