محمد مندور من أبرز النقاد المصريين والعرب في القرن العشرين .. 50 عامًا مرَّت على رحيله، وما زال حضوره متجددًا والاحتفاء به مستمرًا
محمد مندور (1907-1965) أو كما عُرف بـ "شيخ النقاد"، واحد من ألمع وأبرز الأسماء النقدية التي سطعت في سماء الحياة الفكرية والإبداعية في مصر والعالم العربي في القرن العشرين، وبمناسبة مرور 50 عامًا على وفاة الناقد عقد "المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة مؤتمرًا دوليًّا موسعًا بعنوان «محمد مندور بين الفكر الأدبي والسياسي»، وذلك بحضور وزير الثقافة المصري حلمي النمنم، وأمين المجلس الأعلى للثقافة الدكتورة أمل الصبان، والدكتورة وفاء صادق رئيس الإدارة المركزية للشعب واللجان الثقافية، والدكتور عماد أبو غازي وزير الثقافة المصري الأسبق، والدكتور خلف الميري رئيس الإدارة المركزية السابق، ونخبة من النقاد والمفكرين، بالإضافة إلى الدكتور طارق مندور نجل الناقد الراحل.
تأخذنا نقاشات المؤتمر مجددًا إلى عالم مندور الذي تتلمذ على يد طه حسين وأحمد أمين، وتخرَّج في كلية الآداب جامعة القاهرة، وسافر إلى فرنسا (1930-1939) للحصول على درجة الدكتوراه، وقضى 9 سنوات في باريس، لم يحصل خلالها على الدرجة، لكن في الوقت ذاته لم يترك فيها ما يمكن أن يثري تكوينه الفكري إلا فعله، فدرس اللغة وإيقاع الشعر، وانتقل منهما إلى نظريات الأدب المختلفة، فتأثر بدروس جوستاف لانسون في السوربون، ومن نظريات الأدب إلى مذاهب السياسة التي جذبته منها نزعة الاشتراكية الديموقراطية، وباعدت ما بينه وليبرالية أستاذه طه حسين وأبناء جيله من أمثال العقاد ومحمد حسين هيكل ولطفي السيد وغيرهم، وكما شغلت النظريات السياسية مندور شغلته المدارس والأعمال الفنية التي لا تزال تموج بها باريس، فمضى متنقلًا ما بين المتاحف والمكتبات وقاعات المسرح والأوبرا والباليه والكونسير، غير غافل عن زيارة اليونان مهد الحضارة الأوروبية، ودراسة التراث اليوناني خاصة الدراما الإغريقية والمسرح اليوناني القديم.
وعقب عودته إلى مصر، عمل لفترة في التدريس الجامعي، ثم قدم استقالته من الجامعة في 1944 ليتفرغ للكتابة الأدبية والنقدية والسياسية في الصحف والدوريات المختلفة.
محمد مندور، ورغم حياته القصيرة (توفي عن 58 عامًا)، احتل مساحة كبيرة في حركة النقد العربي المعاصر، وعرف منذ أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي بإنتاجه الغزير ومتابعاته للنتاج الأدبي في مقالاته وندواته وكتبه، ابتداء من دراساته عن الشعر المصري قبل شوقي، وبعد شوقي، مرورًا بدراسات المسرح التي أخذت تتراكم لتجمع ما بين «المسرح الشعري» و«المسرح النثري» و«مسرح الأوتشرك الاشتراكي»، وانتهاء بالدراسات النظرية التي أخرج فيها عددًا من الكتب المهمة؛ منها: «الأدب ومذاهبه» (1957)، و«الأدب وفنونه» (1964) و«النقد والنقاد المعاصرون» (1964) والكتاب الأخير يتضمن إشارة واضحة وشرحًا لما استقر عليه الفكر النقدي عند مندور في مرحلته الأخيرة التي أطلق عليها "النقد الأيديولوجي".
ومن أعماله الكبرى أيضًا دراسته التأسيسية في النقد العربي القديم «النقد المنهجي عند العرب» الذي أسس لمعرفة مغايرة وحديثة بالتراث النقدي والبلاغي عند العرب، وكتاب «مفهوم الشعر»، ومن ترجماته «منهج البحث في اللغة والأدب» لرائد المنهج التاريخي الفرنسي جوستاف لانسون الذي هيمن ولفترة طويلة على وعي كثير من النقاد ودارسي الأدب ليس في مصر وحدها بل العالم العربي أيضًا.
وعقب وفاة مندور سنة 1965، وكان الناقد الراحل رجاء النقاش وقتها رئيسًا لتحرير «كتاب الهلال» الشهري، سأل زوجته الشاعرة ملك عبد العزيز عن «الكشكول» الذي يجمع مقالات مندور المبعثرة، فنشر في سلسلة كتاب الهلال تحت عنوان «كتابات لم تنشر»، وكتب له المقدمة محمود أمين العالم، وهذا الكتاب، بحسب رجاء النقاش، من أفضل كتب مندور وأكثرها عمقًا وتنوعًا وإضاءة رائعة لما ينبغي أن يكون عليه مستقبلنا الثقافي والسياسي والاجتماعي.
تعددت الأدوار التي لعبها محمد مندور في الحياة الثقافية المصرية والعربية، فقد كان ناقدًا جماهيريًّا مقروءًا ومشهورًا ليس في مصر وحدها بل في أرجاء العالم العربي كله، وانخرط في النشاط الأدبي والسياسي والثقافي خلال تلك الفترة، جعل مندور من قراءة النقد الأدبي في الصحف والدوريات اليومية مادة جاذبة وممتعة، واشتبك مع أعلام عصره في معارك أدبية عديدة وشهيرة، وكان تعدد الروافد الثقافية في تكوينه النفسي والعقلي من أبرز سماته الموسوعية وتقف بشكل حاسم وراء غزارة الإنتاج والمساهمة الفعالة في الحياة الفكرية والسياسية طوال ما يزيد على العقود الثلاثة.
ويكاد يجمع أغلب المثقفين والنقاد المعاصرين على أن محمد مندور من المفكرين والنقاد القلائل الذي تدين له ثقافتنا المعاصرة بالكثير، سواء في مجالات الفكر السياسي التي أثراها بدعوته عن "الديموقراطية الاجتماعية" منذ أواخر الثلاثينيات، أو النقد الأدبي الذي سعى إلى أن يؤسس فيه ميزانًا جديدًا يضيف به إلى ما سبقه إليه جيل أستاذه طه حسين، أو الدراسات الأدبية التي ظل يثري بها المكتبة العربية طوال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
كان مندور من النقاد الذين يتميزون بالعمق والبساطة في آن واحد، يتمتع بقدرات عقلية تحليلية فائقة وملكات ذهنية متوهجة، شهد له بها مثقفون وكتاب كبار، وكان فضلًا عن ذلك يتابع معظم كتابات الأجيال الجديدة في ذلك الوقت، في الشعر والمسرح خاصة، وبدرجة أقل في الرواية والقصة، وترك مئات المقالات في النقد التطبيقي التي اضطلع ابنه طارق مندور بإخراجها في عدد من المجلدات خلال العقدين الماضيين.
الاحتفالية التي شارك فيها باحثون ونقاد مصريون وعربًا، تناولت جوانب من مشروع محمد مندور النقدي والسياسي (1907-1965)، حيث شارك في اليوم الأول من الاحتفالية الناقد الكبير إبراهيم فتحي ببحث عن "تطور المنهج النقدي عند محمد مندور"، وقرأ الناقد التونسي عبد السلام المسدي ورقة بعنوان "محمد مندور عالم اللسان الذي ضل سبيله إلى النقد"، وألقى اللبناني كريم مروة بحثًا عن "في الحديث عن محمد مندور السياسي"، وفي المحور ذاته قدم الناشط السياسي أحمد بهاء الدين شعبان قراءة في "الأفكار السياسية والانحيازات الاجتماعية عند محمد مندور"، في ما ألقى محمد الشافعي بحثًا عن "محمد مندور قلم هادر وصحفي ثائر"، بينما قدم الناقد محمد عبد المطلب دراسة عن "محمد مندور والقراءة الثقافية للنص".
وفي اليوم التالي، ترأس الناقد والأكاديمي جابر عصفور مائدة مستديرة عن (محمد مندور بين الفكرين السياسي والأدبي) شارك فيها النقاد والأكاديميون: خيري دومة، عبد الرشيد صادق محمودي، كريم مروة، محمد شاهين، هيثم الحاج علي، وآخرون.
وقدم الباحث محمد عليوة ورقة حول "لغة النقد عند محمد مندور"، وصالح سليمان ببحث عنوانه "مرتكزات الفكر النقدي والاجتماعي والسياسي عند محمد مندور".
وعلى هامش الاحتفالية، أصدر المجلس الأعلى للثقافة عددًا من كتب مندور النقدية والسياسية والفكرية أو مؤلفات عنه، من أبرزها «محمد مندور شيخ النقاد» لفؤاد قنديل، و«محمد مندور ـ ذكريات أدبية»؛ بالإضافة إلى إصدار المركز القومي للترجمة الترجمات الخاصة بمحمد مندور.
aXA6IDE4LjIxOS4xNzYuMjE1IA==
جزيرة ام اند امز