ربعي المدهون.. كاتب "الرواية الفلسطينية الشاملة"
فعلها ربعي المدهون الكاتب الفلسطيني المخضرم، وحصد الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) عن روايته «مصائر: كونشرتو الهولوكست والنكبة»
فعلها ربعي المدهون الكاتب الفلسطيني المخضرم، وحصد الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) عن روايته «مصائر: كونشرتو الهولوكست والنكبة»، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات (ومكتبة كل شيء بحيفا)، بعد منافسة مع خمس روايات أخرى. لأول مرة، تسجل الجائزة فوزا لكاتب فلسطيني، بعد مشاركات مهمة ومشرفة في الدورات السابقة، المدهون نفسه وصلت روايته المهمة «السيدة من تل أبيب» إلى القائمة القصيرة في دورة سابقة.
«مصائر: كونشرتو الهولوكست والنكبة» (تقع في 268 صفحة من القطع المتوسط)، واحدة من أنضج روايات ما أطلق عليه صلاح فضل "المنافي الجديدة"، رواية ناضجة تعيد تمثل سيرة المآسي والأشجان الفلسطينية وتستعيد عبر أربع حركات بنائية تماثل حركات الكونشرتو الموسيقي، مصائر وتقاطعات شخصيات فلسطينية تحاول الانفلات من أسر الواقع الجاثم وتروي عبر حكايا وسرود محكمة تم تضفيرها ببراعة داخل المتن الروائي وفق تصور محكم منضبط ما مر بالإنسان الفلسطيني، منذ نكبة 48 وحتى الوعي بها وآثارها بوعي الحاضر وتأملات راكمتها التجارب.
في مستهل الرواية، وتحت عنوان «قبل القراءة»، يكتب ربعي المدهون مخاطبا قارئه مباشرة ودون مخايلة ولا مواراة «بعد مشروعي من بعد (السيدة من تل أبيب) التي قدمت فيها مشهدا بانوراميا لقطاع غزة في مرحلة زمنية معينة.. قمت بتوليف النص في قالب الكونشرتو الموسيقي المكون من أربع حركات، تشغل كل منها حكاية تنهض على بطلين اثنين يتحركان في فضائهما الخاص قبل أن يتحولا إلى شخصيتين ثانويتين في الحركة التالية، حين يظهر بطلان رئيسان آخران لحكاية أخرى.. وحين نصل إلى الرابعة تبدأ الحكايات الأربع في التكامل».
أراد المدهون أن يهيئ قارئه لتشكلات نصه ونقلاته الأساسية داخل الرواية؛ إذ يعي المدهون أن كثرة من الاستجابات القرائية، عامة، تتعثر في تقبل ما هو غير كلاسيكي أو تقليدي في السرد الروائي. عن ذلك يقول ربعي المدهون "أشكال الفنون المختلفة تنتج عادة، تأثيرات حسية لدى المتلقي/المستمع/المشاهد، لا تختلف عما تنتجه الرواية، من رضا، أو شعور بالراحة، بالارتخاء، بالتأمل، بالفرح، بالحزن، بالقلق، بالإثارة والتحفز، والاعجاب، الترقب وغيره ذلك. ويصاحب هذا كله قدر متباين من المتعة. ويمكن للرواية بدورها، أن تستعير أشكالاً فنية أخرى وتوظفها لخلق «مؤثرات» تسندها".
في الحركة الأولى من حركات «الكونشرتو الموسيقي» في رواية «مصائر» تحب الأرمنية الفلسطينية إيفانا أردكيان طبيبا بريطانيا في زمن الانتداب على فلسطين، وتتزوجه ويرحلان إلى لندن وتنجب منه بنتا. إيفانا قبل وفاتها توصي بحرق جثتها ونثر نصف رمادها في نهر التيمز في لندن. أما النصف الآخر فطلبت، في تكليف يبدو مزعجا، أن يؤخذ في إناء ويوضع في بيت أهلها في عكا، الذي يسكنه يهود إسرائيليون، أو يوضع في بيت في القدس.
حركة «الكونشرتو» الثانية كانت عن جنين دهمان التي تكتب رواية «فلسطيني تيس»، عن محمود دهمان الذي يعود سرا إلى المجدل ويرفض الرحيل، وكذلك قصتها مع زوجها باسم الذي التقته خلال وجودها في أميركا، وبطل قصتها الذي سمته باسم ايضا. أما الحركة الثالثة فكانت عن وليد دهمان وزوجته جولي ابنة إيفانا اللذين زارا «البلاد» لتنفيذ وصية إيفانا ووقعا في عشق البلاد وفكرا في العودة.
الحركة الرابعة هي زيارة وليد لمتحف «يد فشيم» لضحايا المحرقة النازية، مقيما تماهيا بين ضحايا المحرقة اليهود وضحايا مجزرة دير ياسين الذين قتلتهم منظمات صهيونية.
سيجد القارئ لرواية «مصائر» سبيكة من التجارب المتفردة لدقائق العلاقات الشائكة في الوضع العربي الإسرائيلي، وفيها ما هو أخطر من ذلك وميض الروح الفلسطيني الذي يتوهج بالسخرية ويتدرع بالأمل وهو يتمرس بصناعة الحياة من قلب الموت المحيط به.
صفحات شعرية مفعمة بأدق اللفتات والإشارات الذكية عن البشر ومصائرهم والمدن وتحولاتها، في ومضات مكثفة ومشاهد عائلية مشحونة بالتفاصيل والنزاعات، يحكم الكاتب ربط كل الخيوط المتناثرة وحل تعقيداتها باقتدار سردي لافت، ويحسن طرح هذا الشجن الهائل الذي يغمر الشخوص والأماكن دون مبالغة.
في قراءته اللافتة للرواية، أطلق الناقد الكبير فيصل دراج على رواية «مصائر» لربعي المدهون "الرواية الفلسطينية الشاملة"، فقد شاء المدهون "رواية فلسطينية شاملة، ترجع إلى ما قبل «النكبة» وتسرد حب أرمنية عكاوية لإنجليزي في زمن الانتداب، وتقرأ «لعنة الشتات»، وتمر على مسيحيين فلسطينيين حسمهم الموت في الحرب الأهلية اللبنانية، وعلى صدّام والكويت وترحيل اللاجئين، وتذهب إلى كندا، في انتظار منافٍ جديدة.. استذكر «دير ياسين» ورسم فلسطينياً متنوعاً في اغترابه، يتراءى في غزة مستودع الأحزان و«الضفة» في وجودها الجغرافي المعلق، وعرب فلسطين المتشبثين بكلمة «البلاد»، أضاء «النكبة» بصورة «الهولوكوست» التي حوّلها الصهاينة إلى صناعة رائجة".
ربما تتبدى فرادة هذه الرواية (على وفرة الروايات التي عالجت المأساة الفلسطينية والنكبة والمآسي التي يحفظها أبناء الأرض وأبناء العرب عن ظهر قلب) في منظورها الإنساني العميق، وطرحها المتسامح الرحب الذي يومئ ولا يصرح بكثير من الأفكار والتأملات المستصفاة من عذابات ومعاناة عقود وتصل في النهاية إلى النفور من الأفكار الجاهزة والمقولات المسلمة وتجنب الأحكام المطلقة واليقينية، وضرورة مراجعة ومقاربة القضايا الكبرى في ضوء خبرة إنسانية شاملة تراجع الماضي وتتأمل الحاضر وتستشرف المستقبل.
يقول دراج إن المدهون في روايته "لا يختصر اليهودي في المنظور التعددي إلى بندقية وطلقات، فهو ينوس بين اللطف والنظر العنصري الجاهز ويظل، في الحالين، المخلوق الذي أنزل بالفلسطينيين عقاباً أقرب إلى اللعنة، ونثرهم على أصقاع العالم المختلفة. ولعل تعددية النظر هي التي استحضرت كلمة «الهولوكوست»، الموجود على عنوان الرواية، وواجهتها بمجزرة دير ياسين، كما لو كان اليهودي، مهما كانت صفاته، «نازياً ألمانياً» في صيغة أخرى، لا مكان في ذاكرته للوجع الفلسطيني، ولا مكان في الذاكرة الفلسطينية «لمحرقة» ليست مسؤولية عنها. تتبقى أسئلة الضحية والجلاد، المعلّقة بلا جواب، في فضاء التاريخ".
أتصور أن هذه الرواية "الجريئة" لم تثر بعد، في عالمنا العربي، ما يمكن أن تثيره من جدل قد يحتدم ولا يتوقف لفترة قصيرة، لكنها أيضًا إذا قُرئت بعمقٍ كاف ووعي منفتح ورحابة أصيلة فإنها ستكون نقطة انطلاق لرؤى إنسانية وفنية مغايرة، ويمكن اعتبارها بحق رواية تأسيسية في تاريخ الرواية العربية والفلسطينية معا.