مسرح الحكواتي يقاتل وحيدًا في القدس..والسلطات الإسرائيلية تهدد بإغلاقه
المسرح الذي قدم أكثر من 150 مسرحية من إنتاجه منذ تأسيسه في العام 1984 كان الوسيلة الوحيدة بيد مؤسسيه للمحافظة على الهوية الفلسطينية.
تُرك مسرح "الحكواتي" وحيدًا وسط مدينة القدس، يقاتل الاحتلال الإسرائيلي والإهمال الفلسطيني ليبقى على قيد الحياة يؤدي رسالته تجاه بلده المستهدفة بالأسرلة والتهويد.
المسرح الذي قدم أكثر من 150 مسرحية من إنتاجه الخاص منذ تأسيسه في العام 1984 كان الوسيلة الوحيدة بيد مؤسسيه للمحافظة على الهوية الفلسطينية، ولإعادة صياغة الرواية الوطنية لشعبهم التي تحاول المؤسسة الإسرائيلية تزييفها بما تملكه من إمكانات مالية وتكنولوجية وإعلامية لا تضاهى، لكن هذه الإمكانيات لم تقف حائلًا أمام الفلسطينيين، فأعلنوا تمردهم على الواقع الذي تحاول إسرائيل فرضه عليهم، وكان ذلك من خلال "الحكواتي".
المسرح ما زال حتى اليوم يقدم العروض المسرحية الخاصة، وجمهوره على موعد مع عرضين لمسرحيتي "زون 6" و"رجعت الشتوية" وغيرها هذا الأسبوع.. لكن "الحكواتي" يتلقى الضربات المتواصلة على رغم من إصراراه الوقوف على رجليه ليشق طريقه وسط الدروب الشاقة في القدس المحتلة، حتى تأتيه الضربات الإسرائيلية لوقف الجسد النابض بالثقافة والأدب والتاريخ والحياة في محاولة لخنقها ضمن المشروع الإسرائيلي التهويدي الأكبر للمدينة.
لكن المسرح الوحيد في القدس المحتلة، الذي كان على مدى واحد وثلاثين سنة رائدًا في مجال الفن والثقافة، ولطالما قدَّم عروضًا مع فرق من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، مُعرَّض للإغلاق بعد أن تضخمت الضرائب الإسرائيلية عليه، وبات عاجزًا عن دفع استحقاقات هذه الضرائب التعسفية.
وتراكمت ديون الحكواتي على ثلاث سنوات حتى وصلت لأكثر من ربع مليون دولار، تعجز إدارة المسرح عن توفيرها، ما يهدد بإغلاقه إن لم تسدد قسط من المبلغ حتى يوم غد الإثنين.
محاولات إنقاذ المشروع
ولتفادي إغلاق المسرح تحرك مديره الممثل عامر خليل في كل الاتجاهات لتوفير الأموال المستحقة لإنقاذ المشروع الثقافي الوطني المحترف في القدس الشرقية من الإغلاق والانهيار، يقول عامر، ويضيف "هناك وعود من شخصيات ومؤسسات مقدسية بتدبير جزء من الأموال لسداد الديون".
وأوضح خليل لـ "بوابة العين"، أن إدارة المسرح تسلمت قبل أسبوعين قرارًا من دائرة الإجراء الإسرائيلية بالحجز على المسرح لتراكم الديون للمؤسسات الإسرائيلية، وأضاف "تلقينا الخميس الماضي إشعارًا من الدائرة تبلغنا نيتها الحجز على محتويات المسرح خلال 48 ساعة في حال عدم تسديد المبلغ المطلوب".
والديون المستحقة على المسرح عبارة عن ضرائب تفرضها الدوائر الحكومية الإسرائيلية على المؤسسات الفلسطينية والإسرائيلية على السواء، لكنها "ترهق كاهل المؤسسات الفلسطينية" وفق خليل "لأن مستوى دخل الفرد الفلسطيني منخفض جدًّا قياسًا بمستوى الإسرائيلي، وهذا ينعكس على موارد المؤسسات الفلسطينية".
وتفرض الدوائر الإسرائيلية العديد من الضرائب، لكن أكثرها إرهاقًا للفلسطينيين في القدس، هي الضريبة المفروضة على الأملاك والمعروفة باسم "الأرنونا"، التي أقر الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي زيادة نسبتها عام 2012. وتقدر "الأرنونا" االمستحقة على الحكواتي 65 ألف شيقل (حوالي 16500 دولار)، وفق خليل.
ويضيف خليل "لم نستطع الدفع لشركة التأمين الإسرائيلية طوال ثلاث سنوات مبلغ شهري تصل قيمتها 6 آلاف شيقل (2000 دولار).. هكذا تراكم المبلغ على المسرح حتى وصل لأكثر من 200 ألف شيقل (50 ألف دولار)، وهنا ضرائب أخرى وديون مقابل خدمات الكهرباء والمياه، علاوةً على رواتب متأخرة لموظفي المسرح"، ويشير إلى أن عدد من الموظفين لم يتقاضوا راتبهم منذ ستة أشهر.
السيطرة على العقارات
مستشار ديوان الرئاسة الفلسطينية لشؤون القدس، أحمد الرويضي، قال، إن السلطات الإسرائيلية تبالغ في فرض الضرائب على الفلسطينيين في القدس رغم تدنى مستوى ما يحظون به من خدمات، لافتًا إلى أن ما يقدم للمقدسيين من خدمات لا يتجاوز 12% فقط من حصيلة ما يجمع من أموال تحت ضريبة "الأرنونا".
واعتبر الرويضي، أن الهدف من وراء فرض ضريبة "الأرنونا" عالية القيمة هو السيطرة على الأملاك الفلسطينية في القدس الشرقية، تمهيدًا للسيطرة على كامل العقارات الفلسطينية لصالح المشاريع الاستيطانية.
ويخول القانون الإسرائيلي رئيس البلدية اتخاذ إجراءات قانونية لجباية ضريبة "الأرنونا"، ومن يتخلف عن دفعها في وقتها، تفرض عليه فوائد تراكمية يفوق مجموعها قيمة المبنى المستهدف بالضريبة، وهو ما يثير شكوك الفلسطينيين من هدف إسرائيل من وراء تلك الضريبة.
مسرح الحكواتي ليس استثناءً من الإجراء الإسرائيلي، فحسب خليل، إن "دائرة الإجراء الإسرائيلية" ستقتحم المسرح وتعمل على تخمين محتوياته ومعداته للحجز عليها، بقيمة الديوان المتراكمة على المسرح.
ويحتاج المسرح لموازنة تشغيلية شهرية تقدر بـ 25 ألف دولار أمريكي، وفق خليل، لا يتوفر منها إلا (10-15%) يتم جمعها من بيع التذاكر والخدمات الثقافية المقدمة، وهو ما يؤدي إلى عجز سنوي يقدر بـ 300 ألف دولار.
وظل الحكواتي قبلةً للفلسطينيين ولغيرهم من الأجانب، إلى أن انحسر الحضور للمسرح على فلسطينيي القدس عقب إغلاق سلطات الاحتلال القدس، وعزلها عن الضفة الغربية عام 2002، ما أثر على مستوى المدخولات المالية للمسرح.
لا تقف خدمات المسرح الأشهر عند تقديم العروض المسرحية والفنية؛ إذ تفتحه الإدارة أمام كل الأنشطة الثقافية والأدبية والفكرية المختلفة، تحقيقًا للغايات التي أسس من أجلها وفق خليل.
150 مسرحية
قدم الحكواتي على مدار مسيرته الفنية 150 عملًا مسرحيًّا، من إنتاجه الخاص، إضافةً إلى تقديمه مئات الأعمال الفنية والثقافية في مختلف المجالات، وهذا رقم كبير جدًا في الظروف الطبيعية المساعدة، وفق خليل "فكيف بنا ننتج كل هذا الكم الرائع من العمل المسرحي في ظروف حصار وتضييق إسرائيلي خانق".
ويتابع "الحكواتي هو عنوان الحركة الثقافية في القدس، وإغلاقه يعني شلل في الحركة الثقافية" مشيرًا أن المسرح يحتوي على قاعتين، الأولى تتسع لـ 300 شخص، والثانية تتسع لـ 100 شخص، وهو بقاعتيه يعد أكبر المسارح في فلسطين.
يأسف خليل لغياب الاهتمام الرسمي الفلسطيني والمجتمعي بالفن الفلسطيني الملتزم بقضايا وطنه والحريص على حماية هويته وموروثه الثقافة من السرقة والتزييف، ويوضح "لا يوجد أي مساهمات مالية للسلطة الفلسطينية ولوازرة الثقافة في دعم المسرح، وكذلك دعم المؤسسات الفلسطينية الأهلية وحتى العربية المقتدرة ماليًّا محدود جدًّا".
الأزمة المالية تلقي بظلالها القاتمة على كل غالبية المؤسسات الفلسطينية في القدس، "وهذا ما يعلمه جميع المسؤولين لكن دون تحرك لإنقاذ تلك المؤسسات التي تقوم بدور وطني متقدم " حسب خليل.
بيت الفلسطينيين
لا يقف الحزن على حال المشهد الفني الثقافي في القدس، وما أصاب الحكواتي على مديره الممثل الفلسطيني المعروف، فالمحامي محمد عليان والد الشهيد بهاء عليان (استشهد إثر دهسه مجموعة من المستوطنين وجنود الاحتلال منتصف شهر أكتوبر الماضي في القدس المحتلة)، يرى في إغلاقه خطرًا يتهدد الوطن كله .
ويقول عليان لـ"بوابة العين": "عندما تلقيت نبأ استشهاد بهاء شعرت أنني فقدت ابنًا واحدًا، أما عندما تلقيت قرار إغلاق مسرح الحكواتي" في القدس فقد شعرت أنني أفقد الوطن.
ويضيف "في الوطن ألف ألف بهاء، ومسرح وطني واحد" ويشدد على ضرورة إنقاذه قبل فوات الأوان "وفاءً لفلسطين ولكل الشهداء".
الأديب إبراهيم جوهر يخشى من فقدان المسرح المقدسي، ويقول: "الحكواتي الذي نهض من بين الركام والخراب والحريق ليصير مأوى للأرواح والثقافة وابتسامات الحياة اليوم ينتظر وضع اليد والإغلاق لصالح مؤسسات الاحتلال".
ويؤكد جوهر، أن الحكواتي "هو بيت المثقفين الفلسطينيين ومنزل مثقفي مدينة القدس"، مشددًا أن "المبنى ذو الموقع الاستراتيجي ظل هدفًا للجمعيات الاستيطانية، والثقافة كانت –وما زالت– الواخز المؤرّق لمن لا يرغب برؤية شعب يصرّ على الحياة ويتحدى بالثقافة، بالفن والمسرحية والغناء والدبكة والكتاب وحلقات النقاش والريشة ومرح الأطفال.
رغم معاناة المسرح والفن الفلسطيني عمومًا، وفي القدس تحديدًا، إلا أن الأمل لا يفارق الفنانين والمثقفين، ويؤكدون أنهم سينجحون في جولة التحدي مع الاحتلال ومؤسساته، وسيكسرون حلقات الإهمال الرسمي الفلسطيني والعربي للشأن الثقافي والفنيس.