"أوروبا بتوقيت إمبابة".. أدب الرحلات بطعم السخرية
الموناليزا هنا في قلب حارة مصرية عتيقة، مصابة بلكمة بعينها وإلى جانبها يجلس فلاح مصري أصيل.
الموناليزا هنا في قلب حارة مصرية عتيقة، مصابة بلكمة بعينها وإلى جانبها يجلس فلاح مصري أصيل، المشهد الغريب هذا، الذي يشكل برج إيفل الفرنسي خلفية له، ليس إلا لوحة "كولاج" تعكس تداخلاً حضارياً مصحوبا بكثير من السخرية.
هو عمل للمصممة إسراء مبارك التي صممته لغلاف كتاب مغاير يحتمل جمع كل هؤلاء وسرد قصصهم على طريقة صاحب الكتاب.. محمود زكي.
هو كتاب "أوروبا بتوقيت إمبابة" الصادر عن دار نشر "أطلس"، الذي حقق نسبة مبيعات كبيرة منذ طرحه خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب يناير/كانون الثاني 2016.
وعلى الرغم من كون الكتاب يصنف ضمن أدب الرحلات إلا أن زكي آثر أن يضيف بصمته الخاصة ليصبح "أدب رحلات ساخر"!
يأخذك الكاتب في رحلة طويلة على مدار 8 فصول إلى أعماق أوروبا، ويذكرك مع كل محطة بتوقيت مصر أو "إمبابة"، الحي الشعبي الأشهر في مصر.
لم يكن إنجاز هذا العمل بالأمر السهل لكاتبه، وشكل تحديا له، يقول لـ"العين": إن "أكبر تحدٍّ واجهته هو أن تُفهم فكرة الكتاب بشكل خاطئ، باعتبار أن فكرته تقوم في الأساس على انتقاد أحوال مصر بالمقارنة اللافتة والصادمة مع دول العالم المتقدم، ومع ذلك فما زلت أرى بلادي الأجمل في الدنيا، وكذلك الحال بالنسبة للكثير من الشباب الذين عندما يسافر أحدهم أسبوعا يشتاق إليها".
ويقول زكي إن "مواجهة هذا التحدي، الذي يصب في خانة "الانتماء"، جاء من خلال محاولته التركيز على ما اعتبرها نقاط القوة "غير المستغلة" لدى الشعب المصري وعلى رأسها التاريخ والسياحة والطبيعة والجغرفيا والشخصية المصرية وحتى الأكلات الشعبية.
غالبا ما تُقابل الكتابة عن التجربة الغربية بحذر، خشية التورط في فخ "الانبهار"، الذي حاول الكاتب السيطرة عليه تارة بالحس "الكوميدي" أو الساخر الذي نعت به تصنيف كتابه، وتارة أخرى من خلال تفعيل آلية "البحث" فيما وراء التجربة المحكية، فعلى حسب تعبيره "كنت حريصا على مدار الكتاب أن أؤكد أن الغرب ليس هو الباهر في حد ذاته، لكن القدرة على التطور والرقي واحترام الآخر هو الباهر".
يعتبر محمود زكي أن التجربة الهولندية من أكثر التجارب التي لفتته كرحالة قبل أن يكون كاتبا، فهي حسب تعبيره لنا "واحدة من أهم عشر دول في العالم اقتصادياً، فهم من أكبر صانعي الجبن والورود والحديد، لديهم أكبر ميناء في أوروبا، علاوة على أنهم شعب متحضر جداً، متسامح، يتحدث ست لغات، يتعلمونها في المدارس".
الأكثر من ذلك على حسب الكاتب هو عنصر المفارقة المدهشة التي تجعل الشعب الهولندي من أكثر الشعوب إنتاجا ومن أقل الدول في معدلات الإجرام، رغم أنها من الدول القلائل التي تسمح ببيع المخدرات في الشارع! ومن أكبر البلاد المعروفة بتجارة الجنس والخمر، وهو حسب تعبيره "قمة في التناقض أنك لا يمكن أن تجد أحدا رغم هذه الإباحية الضخمة، غائبا عن الوعي أو يفسد عمله، وهو مشهد يزيد مساحة التناقض في كل شيء ما بين مساحات زراعية وزهور ومن خلفها أدخنة المصانع والموانئ، وشوارع كاملة من الحانات وخلفها كنائس، فهي من أقل الدول في معدلات الجريمة في قلب أوروبا".
التجربة الهولندية تقع في الفصل الأول من الكتاب، واعتاد مع مطلع كل فصل أن يرصد بشكل ساخر انطباعات المصريين عن كل بلد سيتحدث عنها قبل الكتابة عن رحلته، فعن هولندا مثلاً رصد انطباع المصرين عنها باعتبارها بلداً تشتهر بمخدر الحشيش ومشروب البيرة والبطاطا المقلية، كذلك فهي صاحبة المنتخب الذي أحرز في شباكه لاعب مصري اسمه مجدي عبد الغني هدف مصر الوحيد في بطولات كأس العالم أثناء تنظيمها في إيطاليا عام 1990!
يحيلك الكتاب إلى عرض التاريخ، ويقتبس من مؤلفات رصينة كانت تتحدث عن الفترة الأنصع في التاريخ العربي والإسلامي وهي الدولة الأندلسية، يستشهد برائعة الراحلة رضوى عاشور "ثلاثية غرناطة" بما فيها من وصف ساحر لمدينة فالنسا أو بالنسيا كما ينطقها الإسبان، بكل ما في صورة هذه المدينة من مخيلة تذوب في سحر عروق الزيتون وكروم العنب والطاحونة والبيوت، يخرجك محمود زكي من هذا الحنين ويقول في كتابه: "لم يبق مما تحكي عنه رضوى عاشور شيء، فبعد مرور ما يقرب من 500 عام على سقوط دولة الأندلس في إسبانيا، التي كانت فالنسيا جزءا منه في يوم من الأيام، اختفت المئذنة وراحت الطاحونة وتهدمت القلعة، وورى التراب على حدائق الزيتون والكرم، ضاع الإسلام من القلوب ورحلت الحضارة الإسلامية من حيث جاءت، ولم يبق من كل شيء إلا شيء واحد.. الأكلة الشعبية الأولى في فالنسيا إنها ال"باييلا paella"
ويحدثك بعدها عن تلك الأكلة الشعبية التي باتت الرسمية هناك والمتشبعة بفنون المطبخ العربي!
على الجانب الآخر أفرد المؤلف نصيباً كبيراً من كتابه إلى الجهود اليهودية لتخليد متاحف "الهولوكوست"، معتبراً أن أمستردام تعتبر نموذجاً صارخاً للدعاية اليهودية، على رأسه منزل "آنا فرانك" الطفلة اليهودية التي اختبأت مع أسرتها لمدة عامين داخل منزلها خوفاً من نازية هتلر، ويصف الكاتب المتحف بأنه منزل فارغ لا يضم سوى مكتبة داخلها باب سحري للوصول إلى الباب الثاني، ولا يوجد شيء آخر في المتحف، ورغم ذلك يحظى بشهرة واسعة في أمستردام.
من فصل اليونان نقرأ "عندما تحدث سائق التاكسي اليوناني عن الفساد في اليونان وأموال الشعب الضائعة على الاولمبياد، لم يكف عن لعن البلد والحكومة والرئيس الذين أغرقوا البلد في بحر الديون، ثم لفظ السائق اليوناني كلماته الأخيرة قبل أن نخرج من سيارته وقد اشتد الحزن عليه.. "يا بخت إنكم مصريين"!
مواقف شتى تعايش معها المؤلف على مدار 367 صفحة، تمر بها بالمطبخ السويسري الخادع، وشقة بموناكو ب 66 مليون يورو، وسترقص زوربا في اليونان مع المتسولين، وتواجه كنيسة دراكولا وجها لوجه في برشلونة، وتسبح في عمق العاصفة الثلجية على أعلى جبال الألب، وقبل كل ذلك ستتعرف على كعك أمستردام الخاص!
يعد هذا هو الكتاب الثاني للمؤلف محمود زكي، بعد كتابه الأول "برطمان نوتيلا" الذي نافس ضمن قوائم الكتب الأفضل مبيعا عام 2015، ويتحدث فيه عن تجربته الذاتية في إنقاص وزنه أكثر من 50 كيلوجراما.