كلما قابلتنا المشاكل في إدارة شئوننا الاقتصادية والسياسية ترتفع الأصوات للتنديد بالمؤامرة -أو المؤامرات- التي تُحاك ضد بلدنا
كلما قابلتنا المشاكل في إدارة شئوننا الاقتصادية والسياسية ترتفع الأصوات للتنديد بالمؤامرة ـ أو المؤامرات ـ التي تحاك ضد بلدنا من الخارج أو من الداخل. وبعد أن يشرح الكاتب أو المتحدث عناصر المؤامرة ومظاهرها، ينفض يديه من المشكلة، معتقدا أنه قد أدى دوره في حماية الوطن بعد أن كشف الغطاء عن هذه المؤامرات الخبيثة.
والسؤال الحقيقي هو، هل المشكلة هي في البحث عن المؤامرات وكشفها، أم إنما هي في ضعف مناعتنا إزاء هذه المؤامرات؟
المؤامرات هي مثل الميكروبات والفيروسات، دائما موجودة في الجو، والاختلاف الوحيد هو في مناعة الجسم، فالمشكلة ليست في وجود أو عدم وجود هذه الميكروبات أو الفيروسات في الجو، وإنما هي في مدى مناعة الجسم، والعلاج ليس في لعن الميكروبات وإنما في تقوية مناعة الجسم ومقاومته للأمراض.
ومقال اليوم، ليس المرة الأولى التي أكتب فيها عن «نظرية المؤامرة». فقد سبق أن نشرت ـ منذ سنوات ـ مقالا عن المؤامرة، واليوم أعود إلى الكتابة في نفس الموضوع، لما لاحظته من ارتفاع نبرة الحديث عن المؤامرة أو المؤامرات التي تحاك ضد مصر، وإلقاء اللوم ـ كله ـ على أصحاب هذه المؤامرات الدنيئة، وإبراء ذمتنا كاملا من الموضوع. فنحن ضحايا غير مسئولين! وهو في نظري أمر غير صحيح، فإننا مسئولون عن كل ما يقع، ولا يجب إلقاء اللوم على الآخرين، فالبلد بلدنا، ونحن مسئولون عن نجاحه أو فشله. ومن الطبيعي أن تواجه الدول المشاكل وتسعى لعلاجها، ولا تكتفي بالشكوى وإلقاء اللوم على الآخرين!
ولا أريد بهذا، القول إننا لا نواجه مشاكل متعددة خارجة عن إرادتنا، ولكن هذه هي مشكلتنا، وعلينا أن نعمل على إصلاحها بالعمل والجهد وليس بمجرد الإدانة والتخلي عن المسئولية، فما يصيب بلدنا هو مسئوليتنا، وعلينا أن نتحمل هذه المسئولية بكل رجولة، وأن نبحث في تغيير سلوكنا بما يجنبنا استمرار هذه المشاكل.
وإذ أعود اليوم إلى الكتابة عن «نظرية المؤامرة»، فإنني أعترف بأن المؤامرة موجودة، وهي ليست مؤامرة واحدة، بل هي مؤامرات متعددة، من الداخل والخارج، وكل منها يذهب في اتجاه، وتنسب هذه المؤامرات عادة إلى الشيطان الأكبر، سواء أكان هذا الشيطان هو الرأسمالية، أو حتى عهد ليس بعيدا هو الشيوعية، أو هو الماسونية العالمية أو أعداء الإسلام أو الصهيونية أو الشركات متعددة الجنسيات.. والقائمة طويلة! وبشكل عام فالغالب أن تنسب هذه المؤامرات إلى الغرب ـ سواء كان أمريكيا أو أوروبيا ـ في نظرته المتعالية إزاءنا.
والسؤال الحقيقي هو ليس في وجود المؤامرة، وإنما هو لماذا تنجح هذه المؤامرات عندنا وتفشل عند غيرنا؟ والأمثلة متعددة.
خذ مثلا اليابان. فهل اليابان دولة أوروبية وغربية؟ فلماذا نجحت اليابان منذ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ كيف نجحت اليابان ـ رغم البوارج البريطانية التي تحاصر موانيها ـ خلال القرن التاسع عشر، في الاحتفاظ باستقلالها، بل إنها فاجأت العالم بالانتصار على روسيا في 1905، مما أظهر أن دولة من الشرق يمكن أن تنتصر على دولة من الغرب، واستمرت اليابان في طريقها للتصنيع لتصبح قوة اقتصادية لا يستهان بها في بداية القرن العشرين، لتغامر بعد ذلك بالهجوم على بيرل هاربر الأمريكية، فتعلن الولايات المتحدة الحرب عليها، وينتهي الأمر بإلقاء القنابل الذرية عليها ويتم احتلالها من جانب الولايات المتحدة، فتبدأ من جديد في العمل والبناء ـ بعيدا عن البكاء والعويل ـ لتصبح من جديد ثاني أكبر اقتصاد في العالم قبل أن تستعيد الصين هذا الوضع لتصبح هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم في بداية هذا القرن، وإن ظل معدل الدخل الفردي فيها منخفضا بالنظر إلى كثافتها السكانية، وماذا عن النمور الآسيوية ـ كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وماليزيا ـ وكلها عانت الاحتلال والتدمير خلال الحرب العالمية، وبعد ذلك في حروب جنوب شرق آسيا، ولكنها انصرفت إلى العمل والبناء، وليس البكاء من المؤامرات الخارجية، والآن، فالهند، ورغم كثافتها السكانية، وتعدد الطوائف والأديان بها، فإنها بدأت تظهر كمارد اقتصادي محتمل، وليس الأمر بعيدا عن جنوب إفريقيا.
ولنعد إلى مصر، ورغم الاعتراف بأننا عانينا ـ ولا نزال نعاني من أوضاع خارجية مناوئة، فإنه يجب أيضا أن نعترف بأن أكبر ما يواجهنا من مشاكل هو صناعة محلية، فهل الانفجار السكاني الذي نعيش فيه، والذي تزايدت معدلاته خلال السنوات الأخيرة، هل هو مؤامرة خارجية أم صناعة محلية؟ وماذا عن إهمال الصيانة في المرافق العامة؟ وماذا عن تدهور التعليم، هل هو أيضا مؤامرة خارجية! وماذا عن تراكم القمامة؟ وماذا عن البناء المخالف للقانون والبناء على الأراضي الزراعية؟ وماذا.. وماذا، والقائمة طويلة. المشكلة الرئيسية فينا، وعلينا أن نتحمل مسئولية مراجعة مظاهر حياتنا بقدر من الصراحة ـ والتواضع أيضا ـ وألا نبحث عن أعذار تبرر تخلفنا وتعفينا من المسئولية.
الحياة بطبيعتها نوع من التحدي الذي يواجهه الإنسان في تعامله مع البيئة المحيطة، ومن الطبيعي أن يستجيب الإنسان لهذه التحديات بتغير سلوكه وتطوير أساليب حياته بما يلائم الظروف المحيطة وما تفرضه عليه من قيود وأعباء، ويكون ذلك بالعمل والابتكار والتجارب، وليس بالبكاء والشكوى.
فالمشكلة ليست في «المؤامرة»، وانما فيما نفعله إزاءها. وفي كتاب مهم صدر في منتصف القرن الماضي للمؤرخ البريطاني توينبي بعنوان «دراسة في التاريخ» (في اثني عشر جزءا) لخص الكاتب نظرته إلى تاريخ البشرية في عبارة موجزة هي «التحدي والاستجابة» فتاريخ البشرية كله، وفقا لهذا المؤرخ، هو تاريخ ما يواجهه الإنسان من تحد من البيئة المحيطة ومن منافسة من الآخرين، ومدي نجاحه في مواجهة هذه التحديات باكتشاف أساليب جديدة للتعامل مع الحياة، ومن هنا فإن الإنسان وحده، من دون بقية الكائنات هو القادر على خلق الحضارات، لأنه لا يكتفي بالشكوى، وانما يعيد النظر ـ باستمرار ـ في أسلوب حياته ويغير من انماط سلوكه للتكيف مع الأوضاع الجديدة، فنجاح المجتمعات هو رهن بقدرتها على الاستجابة والتغيير في ضوء التحديات الجديدة، وذلك بالعمل الخلاق والابتكار والجهد ومراجعة النفس، وليس بالشكوى أو العويل.
المشكلة ليست في وجود مؤامرة ـ فهناك دائما مؤامرات من كل صوب وحدب ـ ولكن المشكلة هي في انعدام الاستجابة لهذه التحديات بتغير السلوك وإعادة النظر في أوضاعنا.
المشكلة ليست في الميكروبات، وإنما في الجسم الهزيل الذي لا يستطيع مقاومة هذه الميكروبات، المؤامرة ـ بل والمؤامرات ـ ستظل موجودة وان تغير شكلها وعلينا أن نكون أكثر استعدادا وقدرة على المقاومة والتكيف مع الظروف المستجدة، نحن مسئولون عما يصيبنا، ولسنا ضحايا، ومستقبلنا نضعه بقدر ما نتمتع به من شجاعة وقدرة على إعادة النظر في أوضاعنا، وتطوير أنفسنا للتعايش مع متطلبات العصر وملاحقة التطور، كفي هذه المواقف الاعتذارية، ولنتحمل مسئوليتنا بشجاعة، وأن نغير من أوضاعنا وسلوكنا، والله أعلم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة