رغم تصاعد الأزمة بين تركيا وروسيا عقب إسقاط المقاتلات التركية لطائرة روسية على الحدود مع سوريا؛ إلا أن هناك حدودا للتصعيد والمواجهة.
رغم تصاعد الأزمة بين تركيا وروسيا عقب إسقاط المقاتلات التركية لطائرة روسية على الحدود مع سوريا؛ إلا أن هناك حدودا للتصعيد والمواجهة العسكرية بين البلدين لأسباب عديدة.
أولها خطورة المواجهة المسلحة، لأنها لن تكون فقط بين تركيا وروسيا، بل ستكون بين روسيا وحلف الناتو الملتزم بالدفاع عن تركيا وفقا لاتفاقية الحلف، وهذا قد يؤدي لاندلاع حرب عالمية ثالثة، وثانيها حجم التشابكات الاقتصادية الضخمة بينهما، فتركيا تحتل المرتبة السادسة عشرة في الاقتصاد العالمي، ولديها مشروعات واستثمارات مالية ضخمة في روسيا تقدر بمليارات الدولارات، وتعد أهم شريك تجارى لموسكو، وفي ظل العقوبات الاقتصادية الأوروبية على روسيا بسبب ملف أوكرانيا؛ فإن توسيع العقوبات الاقتصادية الروسية على تركيا يزيد من الأضرار الاقتصادية لها، ولذلك رغم حزمة العقوبات الاقتصادية التي قررها بوتين على أنقرة، وإنهاء اتفاقية التأشيرة الملغاة بين البلدين وتعليق السياحة ولهجة التصعيد الكلامي؛ إلا أن هناك حرصا روسيا على عدم تفاقم الأمور إلى مواجهة شاملة، ويؤكد ذلك أن روسيا لم تتحدث عن إلغاء الاتفاقيات الإستراتيجية مع تركيا، ومنها بناء مفاعل نووى بها، أو وقف كل صور التعامل التجاري، كذلك تراجع التصريحات العدائية وتغير لغة الخطاب، حيث أعلن بعض المسؤولين الأتراك عن أنه لم يكن هناك قصد في إسقاط الطائرة، كذلك إعلان الرئيس التركى أردوغان عن رغبته في لقاء الرئيس بوتين على هامش قمة المناخ، إضافة إلى ذلك كله فإن الرئيس الأمريكي أوباما وبعض الدول الأوروبية تدخلت لنزع فتيل الأزمة بين تركيا وروسيا ومنع تصاعدها.
لكن مع ذلك فإن الأزمة السورية تظل مصدرا رئيسا لاندلاع المواجهات بين الدول الكبرى، وساحة للحرب الباردة الجديدة في ظل التشابكات والاستقطاب بين أطراف الأزمة الداخلية والأطراف الخارجية، سواء الإقليمية أو الدولية، فمن ناحية فإن تركيا والدول الغربية والولايات المتحدة ومعها بعض الأطراف العربية تدعم المعارضة السورية، خاصة المعارضة المعتدلة التي يمثلها الجيش الحر، وتسعى لحل سياسي يستبعد بشار الأسد منه، ومن ناحية أخرى فإن روسيا ومعها إيران وحزب الله وبعض الدول العربية تسعى لحل سياسي انتقالي يستوعب بشار الأسد، وفى ظل تعارض المواقف وتناقضها فشلت جميع الحلول السياسية التي طرحت منذ اندلاع الأزمة في وقف دوامة العنف والقتل، بل وأصبحت سوريا مصدرا لتفريخ الإرهاب وامتداده إلى خارجها كما حدث في باريس وحادث الطائرة المصرية فى سيناء، إضافة إلى التداعيات الأخرى المتجسدة في أزمة اللاجئين وزحفهم إلى الدول الأوروبية، وبالتالي فإن عوامل إذكاء الحرب الباردة الجديدة -كما هو الحال في الأزمة بين روسيا وتركيا والمرتبطة بالأزمة السورية- قد تتسبب في اشتعال المواجهة المسلحة بين الدول المنخرطة في الأزمة، فنمط تفاعلات الأزمة داخليا أو تعاطى الدول الكبرى معها يصب في اتجاه المراهنة على الحل العسكري، ومحاولة إنهاء الأزمة عبر دعم أحد أطرافها للقضاء على الأطراف الأخرى لفرض نمط الحل السياسي الذى يريده وفقا لموازين القوى على الأرض، ولذلك يقوم كل طرف بتقديم الدعم العسكري والسياسي لأطراف الأزمة، حيث تدخلت روسيا عسكريا لدعم النظام السوري، إضافة إلى الدعم الإيراني على الأرض، بينما تدعم الولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية المعارضة السورية عسكريا وسياسيا، وهو ما يسهم في تعقد الأزمة واستمرار تداعياتها في القتل والتدمير والتهجير، وقد أثبتت خبرة الخمس سنوات الماضية فشل الحلول العسكرية في تسوية الأزمة، فلا النظام قضى على المعارضة ولا المعارضة بجميع فصائلها أسقطت النظام، وكانت المحصلة هي مقتل مئات الآلاف، ونزوح ملايين اللاجئين، وتدمير الدول السورية ومؤسساتها بل وتعرضها للتقسيم والتفتيت، ولذلك فإن أي تدخل عسكري خارجي في سوريا هو مزيد من القتل والتدمير، والشعب السوري هو الوحيد الذى يدفع الثمن، كما أن الصراع ساعد في نمو التنظيمات الإرهابية المتطرفة كداعش وجبهة النصرة وغيرها، وسيطرت على مساحات كبيرة في سوريا والعراق، وامتد تهديدها وخطورتها وأعمالها الإرهابية إلى خارج سوريا.
وإذا كانت الدول الكبرى قد استشعرت خطر الإرهاب الذى طالها، فإن المعالجة الحقيقية لاستئصال هذا الخطر تنطلق من تحقيق تسوية سياسية حقيقية شاملة للأزمة السورية، ترتكز على حل سياسي توافقي، ولا ينحاز لأى من أطراف الصراع، وإنما ينحاز للدولة السورية والشعب السوري، وإنهاء معاناته ومأساته، وأن يستبعد هذا الحل كلَّ من تلوثت أيديه بالدماء والقتل، وإقامة حكومة وحدة وطنية تضم جميع فصائل الشعب السوري في إطار دولة ديمقراطية تركز على مبدأ المواطنة الذى يساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الاختلافات السياسية والعرقية والدينية والطائفية، وإجراء مصالحة وطنية حقيقية لنزع ثقافة الكراهية والانتقام التي نجمت عن الحرب، وإقامة عدالة انتقالية لمحاسبة المخطئ وتعويض الضحايا، وأن تنتهى حالة الاستقطاب الخارجي بحيث يصب التدخل الدولي في اتجاه إنجاز هذا الحل السلمي بشكل مخلص وسريع، وفى مساعدة الشعب السوري في إعادة الإعمار والتنمية وإعادة اللاجئين، وهذا الحل هو الذى سيسهم في إزالة البيئة التي نمت فيها التيارات المتشددة، ويدفع في اتجاه توحيد الجهود في محاربة التنظيمات الإرهابية.
وبدون ذلك فإن استمرار حالة الاستقطاب بين الدول الكبرى والإقليمية وصراع المصالح سوف يزيد من تعقد الأزمة وإطالة أمدها، بل ستتحول سوريا فعليا لساحة لحرب باردة جديدة، وتنذر بمواجهات خطيرة سيدفع ثمنها الجميع
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة
