يمكن القول إن موضوع الهوية العربية أصبح محل جدل شديد فى السنوات الأخيرة خصوصا بعد اندلاع ثورات الربيع العربى
تحدثنا فى المقال الماضى بإيجاز عن المقومات الأساسية للهوية العربية.
ويمكن القول إن موضوع الهوية العربية أصبح محل جدل شديد فى السنوات الأخيرة خصوصا بعد اندلاع ثورات الربيع العربى والتى أدت إلى كشف الغطاء عن هشاشة الانتماء القومى بحكم سقوط عديد من الدول العربية، وارتداد فئات كبيرة من السكان إلى ولاءاتهم التقليدية سواء تمثلت هذه الولاءات فى القبيلة كما حدث فى ليبيا أو اليمن -حيث سيطر صراع القبائل على سلطة الدولة التى تهاوت- أو فى المذهب الدينى كما حدث فى سوريا حيث دار صراع بين العلويين وأهل السنة، أو فى العراق بعد صعود الشيعة إلى سدة الحكم على حساب أهل السنة. وإذا أضفنا إلى ذلك صعود بعض تيارات الإسلام السياسى إلى الحكم كما حدث فى مصر فى ظل حكم الإخوان المسلمين الذين يعلون من شأن الأممية الإسلامية على حساب الهوية العربية، أو بروز حزب النهضة الإسلامى فى تونس وإن كان أكثر رشادة من حماقة جماعة الإخوان، وتجلى هذا الرشد فى قبوله تقاسم السلطة مع الأحزاب العلمانية التونسية، وأكثر من ذلك بإعلانه فى مؤتمر الحزب الأخير فصل «الدعوى عن السياسى» والتمسك بمفهوم الوطن التونسى.
ومعنى ذلك أننا نحتاج لصياغة نظرية عامة عن الهوية العربية تحدد الأسس الرئيسية التى تستند إليها، وفى نفس الوقت تشرح سر تميز الشخصيات الوطنية مثل الشخصية التونسية والشخصية الجزائرية والشخصية المصرية، وهى ما أطلقنا عليه من قبل فى دراسة لنا «النسق الرئيسى والأنساق الفرعية».
وهذه النظرية سبق لى أن صغتها منذ سنوات بعيدة وبالتحديد فى الطبعة الثانية من كتابى «الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر» (أنظر الطبعة الخامسة من الكتاب الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب عام 2016).
وأستأذن القارئ الكريم فى أن أخصص هذا المقال والمقالات التالية لعرض موجز لملامح نظريتى فى الموضوع.
حين نتحدث عن الشخصية العربية فنحن نقترب مباشرة من ميدان محدد من ميادين البحث الاجتماعى هو «الشخصية القومية». وهذا الموضوع من الموضوعات التى أصبحت تشغل بال كثير من العلماء الاجتماعيين الذين ينتمون إلى علوم اجتماعية مختلفة. ويمكننا القول إن الشخصية القومية هى بوجه عام «السمات النفسية والاجتماعية والحضارية لأمة ما، التى تتسم بثبات نسبى، والتى يمكن عن طريقها التمييز بين هذه الأمة وغيرها من الأمم».
غير أن موضوع الشخصية القومية ليس من الموضوعات التى يسود بصددها الاتفاق بين الباحثين. فقد اختلف العلماء على طبيعة الشخصية القومية، وعلى المناهج التى يمكن دراستها على أساسها. وتساءل بعضهم: كيف يمكن تمييز الشخصية القومية عن القيم وعن السلوك وعن السمات الاجتماعية المحددة؟
والحقيقة أن هناك خلافات شديدة تدور بين الباحثين حول أنسب المصطلحات للدلالة على الشخصية القومية من ناحية، وحول مدى صحة استخدام هذا المفهوم ومدى قيمته العلمية. ومهما كان الأمر، يمكن القول أن هناك ثلاثة مفاهيم أساسية تشير إلى الشخصية القومية: وهى البناء الأساسى للشخصية، والشخصية المنوالية، والطابع الاجتماعى.
وفى ضوء هذه المفاهيم الثلاثة يمكن القول أن النهج الذى تبناه المحلل النفسى الماركسى «إريك فروم» فى دراسته للشخصية الاجتماعية هو أسلم الاتجاهات النظرية فى دراسة الشخصية القومية. وذلك لأنه ينطلق من تصور شامل للطبيعة الإنسانية فى إطار السياق التاريخى الذى يؤثر عليها، ويترك بصماته على ملامحها وقسماتها الرئيسية. وهذا التصور الشامل ينطلق من الإطار الاشتراكى العلمى الذى ينظر للشخصية نظرة جدلية فى تفاعلها الدائم مع التكوين الاقتصادى والاجتماعى، فى مجتمع محدد أو فى تأثرها بنمط الإنتاج السائد فى عدة مجتمعات متشابهة.
والسؤال المبدئى الذى يطرح نفسه هو: هل يكون العالم العربى أمة واحدة أو أنه على العكس تجمع أمم متعددة؟
هكذا بدأ «اسطنبولى وزغل» وهما عالما اجتماع تونسيان مرموقان بحثهما «الأمة والقومية والدولة القومية فى العالم العربى» الذى نشر فى أشغال الملتقى حول «الذاتية الثقافية والضمير القومى داخل المجتمع التونسى».
يقرر الباحثان فى الإجابة عن هذا السؤال إن نظرة سريعة على المحيط الاجتماعى السياسى العربى تبرز لنا واقعا مركبا ومتناقضا، بتحليله يمكن لنا أن نستخلص بعدين أساسيين: تكوينات اجتماعية من ناحية، وحركات إيديولوجية من ناحية أخرى. ويمكن تصنيف التكوينات الاجتماعية فى ثلاثة نماذج أساسية:
1- دولة قومية تمتلك تقاليد قديمة فى بناء الدولة، وهى قد استخلصت سيادتها من الاستعمار الأوروبى عقب حركة قومية خاصة فى إطار إقليمى محدد (مثل مصر والمغرب وتونس).
2- دولة تكونت حديثا كمحصلة لعملية تقطيع مصطنعة، ولم تحصل على سيادتها من خلال حركة قومية مستقلة (مثل الأردن).
3- دولة قومية مهددة من داخلها بالانفصال من خلال حركات قومية غير عربية تنادى بحقها فى الاستقلال الذاتى (مثل السودان والعراق).
أما الحركات الإيديولوجية فيمكن أيضا تصنيفها إلى ثلاثة نماذج:
1- حركة إيديولوجية هدفها الصريح هو العودة إلى التقاليد الإسلامية فى عصر الرسول.
2- حركة قومية وليدة، هى القومية الفلسطينية التى تطالب بدولة قومية فى إطار إقليمى، لم تمارس عليه من قبل السيادة الفلسطينية فى شكل دولة قومية بالمعنى الحديث للمصطلح.
3- حركة قومية هدفها إقامة دولة قومية تضم الوطن العربى فى شموله.
والسؤال هنا ما الذى يمكن أن نستخلصه من هذا التصنيف للتكوينات الاجتماعية العربية؟
إن أول ملاحظة يمكن استخلاصها هو عدم التجانس بين هذه التكوينات الاجتماعية. فهناك أولا الدول القومية صاحبة التقاليد العريقة فى بناء الدولة. وهناك الدول التى تكونت حديثا، وهناك أخيرا الدول القومية المهددة من داخلها بحركات انفصالية. ولكن يثور السؤال الهام: هل عدم التجانس الواضح هنا ينفى فى حد ذاته أن هناك أمة عربية واحدة، ويؤيد الرأى الذى يقول بوجود أمم عربية متعددة؟ ومن ناحية أخرى ماذا يعنى تعدد الحركات الإيديولوجية فى الوطن العربى، ووجود حركة إيديولوجية إسلامية فى نفس الوقت مع حركة إيديولوجية قومية؟ وفى رأينا –مبدئيا- أن هذا التفاوت فى التكوينات الاجتماعية فى الوطن العربى، وهذا التعدد الإيديولوجى. ليس دليلا بذاته على عدم وجود أمة عربية واحدة. والمسألة أولا وأخيراً نتوقف على المعيار الذى سنتعمده لتعريف من هم العرب الذين يكونون الأمة العربية.
ونستطيع أن نستخلص من تحليل التراث العلمى عدداً من العوامل التى يمكن بالارتكاز إليها الحديث بيقين عن أمة عربية واحدة هى: الخبرة التاريخية المشتركة، واللغة والعربية، التراث الثقافى المشترك.
*- نقلاً عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة