تتعزز سلامة لبنان بقواه الشعبية المدنية أكثر منها بطبقته السياسية التي اعتادت الانصياع خيراً أو شراً.
بين ردود الفعل على الانتخابات البلدية (المحليات) في لبنان، قول رئيس البرلمان نبيه بري إن بعض النتائج رد فعل عفوي على سلوك الطبقة السياسية وما أفرزت من أزمات، مشيراً إلى فضيحة النفايات والعجز عن انتخاب رئيس للجمهورية وشلل الحكومة والبرلمان. وبري، المشهور بصراحته ومعه صديقه الوزير وليد جنبلاط، سبق أن قال في ذروة الحراك المدني في شوارع بيروت: لولا الطائفية لأخذونا من بيوتنا.
هذا الكلام لا يعني أن الطبقة السياسية الحاكمة وعت الدرس حقاً، فهي تراجع أسباب خساراتها لتنقضّ من جديد على اللبنانيين. لكن عيون كبار الإقليم والعالم تراقب لبنان، بما في ذلك انتخاباته البلدية، بهدف المحافظة على الحد الأدنى من أمنه، ومخافة اقترابه من فم التنين الذي ابتلع سورية والعراق، فسلامة لبنان ضرورية، لكونه منصة للسياسة والمعلومات في مشرق عربي يحترق.
وتتعزز سلامة لبنان بقواه الشعبية المدنية أكثر منها بطبقته السياسية التي اعتادت الانصياع خيراً أو شراً، فمعظم هذه الطبقة من قيادات الحرب الأهلية التي تغلّب النزعة الأمنية على العمل المدني الحر. واللبنانيون لا يريدون أن تتكرر الحرب الأهلية تحت عناوين جديدة، لذلك يعمدون عبر قواهم المدنية والاقتصادية والثقافية إلى الحدّ من التطرفين السياسي والديني اللذين أدخلا سورية والعراق في الجحيم.
أبرز إشارات نتائج الانتخابات البلدية التراجع النسبي لثلاث قوى من الطبقة السياسية الحاكمة: «تيار المستقبل»، «ثنائية أمل– حزب الله»، «ثنائية القوات اللبنانية– التيار الوطني الحر».
وفي الكلام على «المستقبل»، ينبغي تفادي حملات خصومه الذين يفرحون بتراجعه ويعمون عن رؤية الأسباب. والواقع أن هذا التيار بزعامة الرئيس رفيق الحريري، وبعد استشهاده بزعامة الرئيس سعد الحريري، تصدى لمهام كبرى بدت ثقيلة على جسمه المحدود، فـ «المستقبل» تحمّل ويتحمّل المسؤولية السياسية لإعمار لبنان بعد الحرب، ولإعادة تكوين المؤسسات الدستورية والإدارة وفق اتفاق الطائف، ولمواجهة الوصاية السورية بعدما تفاقم تدخُّلها في شؤون الدولة والشعب، وصولاً إلى «14 آذار» العابر للطوائف والمناطق، والتصدي لمحاولات «حزب الله» وراثة الوصاية السورية.
عبء كبير كان منطقياً أن يعجز عن حمله «تيار المستقبل»، خصوصاً مع إصراره على الخطاب اللبناني الجامع وعلى الاعتدال السياسي والديني الذي سمح لمتطرفين بالمزاودة. والمطلوب ليس التخفُّف من هذا العبء إنما توسيع التحالفات، خصوصاً لدى الطائفة الإسلامية السنّية، أكثر طوائف لبنان عدداً وتأثيراً، فيتم النظر إلى «المستقبل» كتيار لا مجرد زعامة لعائلة مهما بلغت أهميتها وجدارتها.
أما ثنائية «أمل»– «حزب الله» فتلقت رسالة من القواعد الشعبية، أن ليس بشعار المقاومة وحده يحيا الإنسان، خصوصاً أن «الثنائية» استولت على مؤسسات الدولة في مناطقها وأجبرت القطاع الخاص على دفع ثمن رضاها إذا رغب بتنفيذ مشاريع استثمارية. والأدهى أن «أمل» تنافس «حزب الله» ثقافياً على ملعبه، فيقتصر نشاط عناصرها على المناسبات الدينية، وهي التي يفترض أن تحمي التيار المدني، بل أن تشارك في تمثيله، تعرقل نشاطه موضوعياً، ويكفي النظر إلى النشاط الثقافي في مدن جنوب لبنان قبل سيطرة ثنائية «أمل»– «حزب الله» وبعدها لندرك تراجع أجواء محافظتي الجنوب والنبطية إلى أفكار القرون الوسطى و «طرد» النخب الحداثوية من منابر المحافظتين. في هذا السلوك نجد أسباب تمرُّد السكان الأصليين في البقاع والجنوب بهدف المحافظة على مصالحهم الاقتصادية وثقافتهم الموروثة من أهلهم بالذات وتلك الحداثوية المنفتحة على الداخل اللبناني والعرب والعالم.
وتتقدّم «القوات اللبنانية»– «التيار الوطني الحر» في حضورها الوفاقي الأول بعد تاريخ من التناحر، كأنها تمارس تمريناً أول في مسار يستند إلى تمثيلها غالبية المسيحيين اللبنانيين، وقد تعثّر المسار في التعقيدات البلدية، ووجّهت النتائج رسالة إلى «الثنائي» مفادها أن المسيحيين اللبنانيين هم الحماة الأول لحرية الفرد والجماعة في لبنان، وبتفاعلهم مع سائر اللبنانيين شاركوا في المحافظة على وطن متعدد حر، وفي فترات حافة الخطر كانوا ينصتون الى صوت العقل الحضاري وينفضون عن أنفسهم غبار عصبية يعمي البصر والبصيرة. هذه الحقائق تقدّم إنذاراً لـ «الثنائي المسيحي» بأن نسبة تمثيله يمكن أن تتراجع دراماتيكياً إذا تمادى في إلغاء الأفراد والجماعات الصغيرة في بيئته. ليس إنذاراً حقاً بقدر ما هو بيان جوهر الديموقراطية.
*- نقلاً عن جريدة "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة