ما العلاقة بين شاعر هندى عظيم، توفى منذ 75 عاما، وبين أحداث قبيحة للغاية وقعت منذ أيام قليلة فى مصر؟
ما العلاقة بين شاعر هندى عظيم، توفى منذ 75 عاما، وبين أحداث قبيحة للغاية وقعت منذ أيام قليلة فى مصر، وجديرة بإثارة الاكتئاب والفزع، وارتكبها أشخاص لا علاقة لهم البتة بالشعر والشعراء؟
ومع هذا، فقد تذكرت الشاعر طاغور بمجرد أن سمعت بما حدث، أعترف أولا بأنى بمجرد أن رأيت فى الصحف إشارة إلى خبر يتعلق بفتنة طائفية جديدة فى مصر، وشعرت من عناوين الأخبار، بأن ما حدث هذه المرة أشد قبحا من المعتاد، قررت الامتناع عن متابعة التفاصيل، إذ بدا لى أن الأمر إعادة بصورة أو أخرى لما نعرفه من مظاهر الاحتقان بين المسلمين والأقباط فى مصر، وفى الصعيد على الأخص، وإن كان الغضب والاحتقان قد تجاوزا الحدود المألوفة، ربما لارتباطه هذه المرة بأعمال تتعلق بالجنس والزواج، وإن كان تصرف جهات الأمن والزعماء الدينيين من الجانبين، لم يختلف كثيرا عما اعتدناه منهم فى أحداث سابقة مماثلة.
تصادف أنى كنت قد نشرت فى «الأهرام»، قبل هذه الأحداث بأيام قليلة (فى 23/5/2016)، مقالا عن الشاعر طاغور بمناسبة احتفالات السفارة الهندية بذكراه فى الشهر الماضي، وكان مقالى يتعلق برأى طاغور فى العلاقة بين الطوائف الدينية المختلفة، أبداه فى زيارة له للقاهرة منذ 90 عاما، لفت نظرى فيما نشر عن رأى طاغور فى هذا الأمر، الرقى البالغ فى موقفه، وقوته وحسمه فى قوله إن من الضرورى ليس فقط أن يترك كل صاحب دين أن يعبر عن معتقداته بحرية، فهذا لابد أن بدا لطاغور أمرا بديهيا، ولكن أيضا قوله، بإن تعدد المعتقدات الدينية من الأمور المرغوب فيها وأن ما يثرى الإنسانية أن تحتفظ بهذه المذاهب والأديان المختلفة، التى عبرت بها الأمم والشعوب عن عواطفها وميولها المختلفة إلى الحق الذى لا حد له، وإن كل دين هو «طريق من الطرق التى تسلكها الإنسانية إلى الجمال والحق والمثل الأعلي..».
قلت لنفسي: «ألم يكن من الجميل أن يطلع الأفراد الذين استشاطوا غضبا ضد أفراد من دين آخر، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، على رأى طاغور فى هذا الأمر قبل وقوع هذه الأحداث؟ ولكنى قلت لنفسى أيضا: إن هذا طبعا فى حكم المستحيل، إذ هل يمكن أن نتصور أن يعرف هؤلاء، فى ظل مستوى تعليمهم الذى نعرفه، والظروف التى يعيشون فيها، أى شيء من آراء الشاعر الهندي؟ ولنفرض أنهم سمعوا بهذه الآراء، فهل نتصور بحكم ظروف معيشتهم هذه أن يقتنعوا برأيه ويستجيبوا لدعوته؟
تذكرت أن حديث طاغور فى القاهرة كان مع مفكرين مصريين كبار من نوع الشاعر أحمد شوقي، وطه حسين، والشيخ مصطفى عبدالرازق، ممن يتوقع المرء أن يتعاطفوا ويؤيدوا رأى طاغور فى الخلاف العقائدى دون تردد، فهل كان من الممكن أن يتعاطف معه ويؤيده، وقت صدور هذا الحديث، أى فى منتصف العشرينيات من القرن الماضي، أشخاص لم يحظوا بمثل ما حظى به هؤلاء المفكرون الكبار من ثقافة وتعليم، بل وأضيف أيضا حظوا به من سهولة الحياة ويسر الحصول على الرزق؟
الأهم من ذلك ما حدث لمصر منذ ذلك الوقت، أى خلال التسعين عاما التى مرت منذ زيارة طاغور للقاهرة، إذا استعدنا إلى أذهاننا ما مرت به مصر منذ عشرينيات القرن الماضى، ليس من الصعب أن نتبين أشياء سيئة جدا حدثت فى هذه الفترة مما يمكن جدا أن تكون مسئولة عن هذه النتيجة السيئة التى وصلنا إليها فى العلاقة بين المسلمين والأقباط.
قد نختلف فى التفسير، أو فى درجة الأهمية التى نعلقها على هذا العامل أو ذاك، ولكننا سوف نتفق على أن هذا التدهور له علاقة بما حدث من تدهور فى نوع التعليم الذى تلقاه المصريون خلال هذه الفترة، وفى ظروف الحياة المادية التى تعيشها نسبة كبيرة من المصريين، وتغير العلاقة بين الطبقات الاجتماعية، مما انعكس بالطبع فى نظام الحكم، والتغير فى علاقة الممسكين بالسلطة ببقية الناس..إلخ، مجرد مثال بسيط: هل من الصعب أن نتصور نمط المشاعر والتفكير الذى يمكن أن تنتجه الحياة فى العشوائيات الفقيرة والمكتظة بالناس، والتى تنتشر فيها مختلف أنواع منغصات الحياة.
أسباب التدهور فى نوع المشاعر ونمط التفكير، ليس من الصعب اكتشافها، ولكن من الخطأ أن نتصور أن علاجها يكمن فى أن نقول للناس كلاما مختلفا، مما يندرج تحت الشعارات التى تتردد كثيرا فى هذه الأيام، كتجديد الفكر الديني، أو التجديد الثقافي، أو قيام المثقفين بمسئولياتهم، أو حتى إصلاح نظام التعليم..إلخ، كل هذا مفيد ومطلوب، ولكنه أشبه بحفنة ملح تلقى فى بحر واسع، إن الذين يظهرون كل هذه القسوة والغلظة فى التعامل مع المنتمين لدين مختلف عن دينهم، مشكلتهم ليست أنهم أخطأوا فى التفكير (وإن كان هذا موجودا أيضا)، ولكن أنهم يعانون مشكلات نفسية وعصبية عويصة نتيجة لمشكلات اجتماعية مختلفة لا يمكن علاجها بمجرد الموعظة الحسنة.
ومع ذلك فالأمر ليس ميئوسا منه بالطبع، فكل تدهور مهما زادت شدته له علاجه، ولكن علينا أن ندرك أن العلاج ليس أقل من صحوة شاملة تمس مختلف جوانب حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتمتد الى كل هذه الجوانب فى نفس الوقت، ويقودها أشخاص يدركون ما هو مطلوب ويؤمنون بضرورته، إن مما يمكن أن يبعث فى قلوبنا بعض الطمأنينة، أن هذا العمل متى بدأ فإن آثاره سوف تنتشر بسرعة ويغذى بعضها بعضا، وأن النجاح فى جزء مه يقوى الأمل فى النجاح فى الأجزاء الأخري، بل ومما يبعث بعض التفاؤل أيضا، أن هذه الصحوة كانت قد بدأت بالفعل، من وراء ظهورنا، حتى فى أثناء أشد الأوقات قسوة، وفى ظل أشد أنواع التدهور، هل نتذكر الشباب فى أوائل أيام ثورة 2011، وكم كان سلوكهم متحضرا ونبيلا، سواء فى معاملة الذكور للإناث، أو المسلمين للأقباط، أو العكس؟ لماذا لم ننتهز هذه الفرصة المدهشة فنحتضن هؤلاء الشباب، ونمنحهم المزيد من فرص التعبير الحر عن أفكارهم ومشاعرهم، ماداموا هم أملنا الوحيد فى الخروج من محنتنا، سواء تعلقت بالفتنة الطائفية أو غيرها؟
*- نقلاً عن جريدة "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة